شبهة : نسيان الرسول للقرآن
الرد على دعوى جواز نسيان النبي القرآن أو إسقاطه عمدًا
شكَّك بعض الْملاحدة في الأصل الذي قامت عليه كتابة القرآن الكريم وجمعه، وهو حفظ النبي ? للقرآن بدعوى جواز النسيان على النبي ? ، واستدلوا على ذلك بدليلين:
الأول: قوله تعالى: } سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى ! إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ { .(29)
فزعموا أن الآيات تدل - بطريق الاستثناء - على أن محمدًا ? قد أسقط عمدًا أو أُنسي آيات لم يتفق له من يذكره إياها، وتدل أيضًا على جواز النسيان على النبي ?.
والثاني: ما روى البخاري عَنْ عَائِشَةَ رَضِي اللهُ عَنْهَا قَالَتْ سَمِعَ النَّبِيُّ ? قَارِئًا يَقْرَأُ مِنَ اللَّيْلِ فِي الْمسْجِدِ فَقَالَ: يَرْحَمُهُ اللهُ، لَقَدْ أَذْكَرَنِي كَذَا وَكَذَا آيَةً أَسْقَطْتُهَا مِنْ سُورَة كَذَا وَكَذَا. وفي رواية: أُنْسِيتُها.(30)
فزعموا أن النبي ? أسقط عمدًا بعض آيات القرآن، أو أُنسِيَها.
الجواب عما تعلق به أصحاب هذه الشبهةِ
فيجاب عن دعواهم أن الآيات الكريمات تدل على جواز نسيان النبي ? بعض القرآن:
أولاً: بأن قوله ? : } سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى { وعدٌ كريمٌ بعدم نسيان ما يقرؤه من القرآن، إذ إن (لا) في الآية نافية، وليست ناهية، بدليل إشباع السين، فأخبر الله فيها بأنه لا ينسى ما أقرأه إياه.
وقيل (لا) ناهيةٌ، وإنما وقع الإشباع في السين لتناسب رءوس الآي، والقول الأول أكثر.(31)
قال القرطبي بعد أن ذكر القولين: والأول هو الْمختار ؛ لأن الاستثناء من النهي لا يكاد يكون إلا مؤقتًا معلومًا، وأيضًا فإن الياء مثبتة في جميع الْمصاحف، وعليها القراء.(32)
ومعنى الآية على هذا: سنعلمك القرآن، فلا تنساه، فهي تدل على عكس ما أرادوا الاستدلال بِها عليه.
ثانيًا: إن الاستثناء في الآية معلق على مشيئة الله إياه، ولم تقع الْمشيئة، بدليل ما مر من قوله تعالى: إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ { ، ولأن عدم حصول الْمعلق عليه يستلزم عدم حصول الْمعلق، ويستحيل أن تتعلق مشيئة الله بعدم بلوغ رسالته.
ثالثًا: الاستثناء في الآية لا يدل على ما زعموا من أنه يدل على إمكان أن ينسى ? شيئًا من القرآن، وفي الْمراد بِهذا الاستثناء قولان:
القول الأول: أن الاستثناء صوريٌّ لا حقيقيٌّ، فهو للتبرك، وليس هناك شيءٌ استُثني.
قال الفراء:(33)لم يشأ أن ينسى شيئًا، وهو كقوله: } خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك { ولا يشاء، وأنت قائل في الكلام: لأعطينَّك كل ما سألتَ إلا ما شئتُ، وإلا أن أشاءَ أن أمنعك، والنية ألا تمنعه، وعلى هذا مجاري الأيمان، يُستثنى فيها، ونية الحالف التمام.(34)
وقيل إن الحكمة في هذا الاستثناء الصوري أن يعلم العباد أن عدم نسيان النبي ? القرآن هو محض فضل الله وإحسانه، ولو شاء تعالى أن ينسيه لأنساه، وفي ذلك إشعارٌ للنبي ? أنه دائمًا مغمور بنعمة الله وعنايته، وإشعار للأمة بأن نبيهم مع ما خُصَّ به من العطايا والخصائص لم يخرج عن دائرة العبودية، فلا يُفْتَنُون به كما فُتِنَ النصارى بالْمسيح ?.ـ(35)
القول الثاني: أن الاستثناء حقيقي، وأن الْمراد به منسوخ التلاوة فيكون الْمعنى أن الله تعالى وعد بأن لا ينسى نبيه ? ما يقرؤه، إلا ما شاء - سبحانه - أن ينسيه إياه بأن نسخ تلاوته لحكمة، أو على أن الْمراد به الترك، أو ما يعرض للإنسان بحكم الجبلة البشرية، أو لأجل تعليم الناس وتبيين السنة لهم.
عن الحسن وقتادة } إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ { : أي قضى أن تُرفع تلاوته.
وعن ابن عباسٍ - رضي الله عنهما: إلا ما أراد الله أن ينسيكه لتَسُنَّ.
وقال الطبري: وقال آخرون: النسيان في هذا الْموضع: الترك، قالوا: ومعنى الكلام: سنقرئك يا محمد، فلا تترك العمل بشيء منه، إلا ما شاء الله أن تترك العمل به مِمَّا ننسخه.(36)
وعلى هذين القولين فلا تعلق لأصحاب تلك الشبهة بِهذه الآيات، إذ لا يفهم منها أن النبي ? قد نسي حرفًا واحدًا مِمَّا أمر بتبليغه.
والجواب عما زعموه في الحديث الشريف:
أولا: أن الحديث الذي أوردوه لا ينهض حجةً لهم فيما زعموا من الشكّ في الأصل الذي قامت عليه كتابة القرآن وجمعه، إذ إن الآيات التي أنسيها النبي ? ثم ذكرها كانت مكتوبة بين يدي النبي ? ، وكانت محفوظة في صدور أصحابه الذين تلقوها عنه، والذين بلغ عددهم مبلغ التواتر- والذين منهم هذا الذي ذكَّرَه، وإنما غاية ما فيه الدلالة على أن قراءة ذلك الرجل ذكرت النبيَّ ? بالآيات، وكان قد أُنسيها، أو أسقطها نسيانًا، وليس في الخبر إشارة إلى أن هذه الآيات لم تكن مِمَّا كتبه كتَّاب الوحي، ولا ما يدل على أن أصحاب النبي ? كانوا نسوها جميعًا، حتى يخاف عليها الضياع.(37)
ثانيًا: أن روايات الحديث لا تفيد أن هذه الآيات التي سمعها الرسول من أحد أصحابه كانت قد انمحت من ذهنه الشريف جملةً، بل غاية ما تفيده أنَّها كانت غائبة عنه ثم ذكرها وحضرت في ذهنه بقراءة صاحبه، وليس غيبة الشيء عن الذهن كمحوه منه، فالنسيان هنا بسبب اشتغال الذهن بغيره، أما النسيان التام فهو مستحيل على النبي ? ؛ لإخلاله بوظيفة الرسالة والتبليغ.(38)
قال الباقلاني(39) وإن أردت أنه ينسى القدرَ الذي ينساه العالْم الحافظُ بالقرآن، الذي لا يُنسَب صاحبه إلى بلادةٍ، فإن ذلك جائز بعد أدائه وبلاغه، والذي يدل على جوازه أنه غير مفسدٍ له، ولا قادح في آياته، ولا مفسد لكمال صفاته، ولا مسقط لقدره، ولا منزل له عنه، ولا معرضٍ بتهمته.(40)
ثالثًا: أن قوله ? : ( أسقطتها ) مفسرةٌ بقوله في الرواية الأخرى: ( أُنْسِيتُها )، فدل على أنه ? أسقطها نسيانًا لا عمدًا، فلا محل لما أوردوه من أنه ? قد يكون أسقط عمدًا بعض آيات القرآن.
قال النووي: قوله ? : "كنت أُنْسِيتُها" دليل على جواز النسيان عليه ? فيما قد بلَّغه إلى الأمة.(41)
وترد هنا مسألة وقوع النسيان من النبي ? ، وهي الْمسألة الآتية.
مسألة وقوع النسيان من النبي ?
وقوع النسيان من النبي ? يكون على قسمين:
الأول: وقوع النسيان منه ? فيما ليس طريقه البلاغ.فهذا جائز مطلقًا لما جُبل عليه ? من الطبيعة البشرية.
والثاني: وقوع النسيان منه ? فيما طريقه البلاغ. وهذا جائز بشرطين:
الشرط الأول: أن يقع منه النسيان بعد ما يقع منه تبليغه، وأما قبل تبليغه فلا يجوز عليه فيه النسيان أصلاً.
قال النووي في شرح قوله ? : "كنت أُنْسِيتُها": دليل على جواز النسيان عليه ? فيما قد بلَّغه إلى الأمة.(42)
الشرط الثاني: أن لا يستمر على نسيانه، بل يحصل له تذكره: إما بنفسه، وإما بغيره.(43)
وقال القاضي عياضٌ(44) - رحمه الله: جمهور الْمحققين على جواز النسيان عليه ? ابتداءً فيما ليس طريقه البلاغ، واختلفوا فيما طريقه البلاغ والتعليم، ولكن من جوز قال: لا يُقَرُّ عليه، بل لا بد أن يتذكره أو يُذَكَّره.(45)
ونسيان النبي ? لشيء مِمَّا طريقه البلاغ يكون على قسمين أيضًا:
قال الإسماعيلي:(46) النسيان من النبي ? لشيء من القرآن يكون على قسمين:
أحدهما: نسيانه الذي يتذكره عن قربٍ، وذلك قائم بالطباع البشرية، وعليه يدل قوله ? في حديث ابن مسعود في السهو: إنَّما أنا بشرٌ مثلكم أنسى كما تنسون.(47)
وهذا القسم عارضٌ سريع الزوال، لظاهر قوله ? : } إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ { .(48)
والثاني: أن يرفعه الله عن قلبه على إرادة نسخ تلاوته، وهو الْمشار إليه بالاستثناء في قوله تعالى: } سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى! إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ { ،(49) على بعض الأقوال.
وهذا القسم داخل في قوله ? : } مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا { .(50)(51)
--------------------------------------------------------------------------------
(29) سورة الأعلى، الآية 6، وبعض الآية 7.
(30) رواه البخاري في صحيحه، انظر صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري (5/312) كتاب الشهادات ح: 2655، و(8/702-705) كتاب فضائل القرآن ح:5037،5038،5042، و(11/140) كتاب الدعوات ح: 6335، ورواه مسلم في صحيحه، صحيح مسلم بشرح النووي كتاب صلاة الْمسافرين، باب الأمر بتعهد القرآن (6/75)، وأبو داود في سننه: كتاب الصلاة - باب رفع الصوت بالقراءة في صلاة الليل (2/37) ح: 1331، وفي أول كتاب الحروف والقراءات (4/31) ح: 3970.
(31) نكت الانتصار لنقل القرآن ص 312، وفتح القدير (5/420)، تفسير القرآن العظيم (4/500).
(32) الجامع لأحكام القرآن (20/14).
(33) هو أبو زكريا يحيى بن زياد الأسدي مولاهم، العلامة صاحب التصانيف، إمام النحاة، وصاحب الكسائي، توفي بطريق الحج سنة 207هـ. سير أعلام النبلاء (1/118)، وتذكرة الحفاظ (1/372).
(34) معاني القرآن للفراء (3/256).
(35) مناهل العرفان (1/267-268).
(36) تفسير الطبري (30/154)، وفتح القدير (5/422)، وفتح الباري بشرح صحيح البخاري (8/702).
(37) مناهل العرفان (1/265).
(38) مناهل العرفان (1/266).
(39) هو القاضي محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر، الإمام العلامة، سيف السنة ولسان الأمة، الْمتكلم على لسان أهل الحديث، صاحب التصانيف، وكان يُضرب الْمثل بفهمه وذكائه، وكان ثقة إمامًا بارعًا. صنف في الرد على الرافضة والْمعتزلة وغيرهم من الفرق، مات في ذي القعدة سنة 403هـ . سير أعلام النبلاء (17/190).
(40) نكت الانتصار لنقل القرآن ص 312.
(41) شرح النووي على صحيح مسلم (6/76).
(42) شرح النووي على صحيح مسلم (6/76).
(43) فتح الباري بشرح صحيح البخاري (8/703).
(44) أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض، الإمام العلامة الحافظ شيخ الإسلام، استبحر في العلوم، وجمع وألف، وسارت بتصانيفه الركبان، وهو إمام الحديث في وقته، وأعرف الناس بالنحو واللغة وكلام العرب، من مؤلفاته الشفا بتعريف حقوق الْمصطفى، ومشارق الأنوار. توفي سنة 544هـ . سير أعلام النبلاء (20/212).
(45) الشفا بتعريف حقوق الْمصطفى (2/161)، وشرح النووي على صحيح مسلم (6/76).
(46) هو الإمام الحافظ الفقيه الحجة شيخ الإسلام، أبو بكر أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن العباس الإسماعيلي الشافعي، صنف تصانيف تشهد له بالإمامة في الفقه والحديث، وكان واحد عصره، وشيخ الْمحدثين والفقهاء. توفي سنة 371. سير أعلام النبلاء (16/292).
(47) رواه البخاري في صحيحه كتاب الصلاة بَاب التَّوَجُّهِ نَحْوَ الْقِبْلَةِ حَيْثُ كَانَ. (1/600) ح 401.
(48) الآية 9 من سورة الحجر.
(49) الآية 6 وبعض الآية 7 من سورة الأعلى.
(50) من الآية 106 من سورة البقرة.
(51) فتح الباري بشرح صحيح البخاري (8/703).
(52) الشفا بتعريف حقوق الْمصطفى (2/147)، و(2/161).
(53) هو العلامة الْمفتي طاهر بن محمد الطوسي الشافعي، صاحب التفسير الكبير، كان أحد الأعلام، توفي سنة 471هـ . سير أعلام النبلاء (18/401).
(54) الشفا بتعريف حقوق الْمصطفى (2/163-164)، وشرح النووي على صحيح مسلم (6/76-77).