قتلى الحروب أحكام تغسيلهم والصلاة عليهم
الشيخ- عايض بن مقبول القرني
القتلى في أرض المعركة، أو في المنازل، أو الطرقات، أو الملاجئ سواء باشروا القتال أم لم يباشروه من قريب أو بعيد؛ إذا أصيب هؤلاء بآثار جراح من شظايا متطايرة، أو غازات سامة، أو متجرثمة، أو مواد حارقة؛ فماتوا على الفور متفحمين أو متسممين، أوغير ذلك، أو ارتث حال البعض ثم مات بعد حين، فما الحكم في تغسيلهم والصلاة عليهم على اعتبارهم شهداء أو غير شهداء؟
ثم على القول بوجوب الغسل كيف يتم تغسيلهم عند التمزق،أو التفحم من جراء انفجار ألغام أرضية، أو قصف جوي، أو بري، أو حرب مدن؟
بل كيف تتم الصلاة على القتيل بعد تطاير أجزائه، واختفاء بعضها مع احتمال أن توجد بعد أن يصلى على الأعضاء الموجودة؟
كل هذه من الأمور التي ينبغي معرفة حكم الله تعالى فيها لا سيما مع تفشي القتل، وتطور الأسلحة، واقتران ذلك بموت الضمير الإنساني عند مسعري الحروب في هذا الزمان على وجه الخصوص.
وقبل أن نلج في بيان الحكم نود تسليط الضوء على المراد بالشهيد عند الفقهاء حتى يتسنى الفصل في مسائل الغسل والصلاة على هؤلاء القتلى.
من هو الشهيد؟!
الشهيد عند الفقهاء على قسمين :
القسم الأول : شهيد الدنيا والآخرة، و هو الذي يقتل في قتال مع الكفار، مقبلاً غير مدبر؛ لتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا هي السفلى، دون غرض من أغراض الدنيا، وقد ورد بيان هذا القسم في الأحاديث التالية :
1- عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال : " إن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال مستفهماً: الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذكر، والرجل يقاتل ليرى مكانه، فمن في سبيل الله ؟ قال عليه الصلاة والسلام:"من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله"(1).
القسم الثاني: شهيد الآخرة : وهو المقتول ظلماً من غير قتال، ومن مات بداء البطن، أو بالطاعون، أو بالغرق، والنفساء التي تموت في طلقها، ونحو ذلك . واستثني من الغريق العاصي بركوبه البحر كأن كان الغالب فيه عدم السلامة، أو ركوبه لإتيان معصية من المعاصي، ومن الطلق الحامل بزنى، ويدل على هذا القسم مايلي :
1- عن أبي هريرة رضي الله عنه: قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما تَعُدُّونَ الشهيدَ فيكم ؟ قالوا: يا رسول الله، مَنْ قُتِلَ في سبيل الله فهو شهيدٌ، قال : إنَّ شُهدَاءَ أُمَّتي إذاً لَقليلٌ، قالوا: فَمن هُمْ يا رسولَ الله ؟ قال : من قُتِلَ في سبيل الله فهو شهيدٌ، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في الطاعون فهو شهيد، ومن مات في البَطْنِ فهو شهيد، قال ابنُ مِقْسَمٍ : أشهدُ على أبيك- يعني أبا صالح- أنَّهُ قال: والغريق شهيدٌ"(2).
2- عن سعيد بن زيد رضي الله عنه: قال سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَنْ قُتلَ دُونَ مالهِ فهو شهيد، ومَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فهو شهيد، ومن قتلَ دون دِينه فهو شهيد، ومن قُتلَ دُونَ أهْلهِ فِهو شهيد"(3).
3- وعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الطاعون شهادة لكل مسلم"(4).
ثانياً: تغسيل الشهداء على ضوء هذا التقسيم :
اختلف أهل العلم في ذلك على قولين:
القول الأول:
ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية(5)، والمالكية(6)، والشافعية(7)، والحنابلة(8)، و الظاهرية(9)، الى أن القسم الأول وهو شهيد الحرب الذي قتله العدو في المعركة فمات محترقاً بعضه، أو كله، أو وجد وقد تفحمت جثته من شدة الاحتراق، أو وجد في مكان المعركة وبه جراح مات على إثرها أنه لايغسل؛ بل يدفن في جراحه، سواء كان ذلك في قصف جوي، أم رمي بري، أم بحري، أم حرب نووية، أم انفجار لغم، أم في غيرها.
واستثنى الحنابلة إذا كان المقتول جنباً، أو امرأة حائضاً، أو نفساء طهرت من حيضها، أو نفاسها فإن هؤلاء يغسلون لما سيأتي من الأدلة .
قال الإمام السرخسي رحمه الله تعالى: "وإذا أغار أهل الحرب على قرية من قرى المسلمين فقتلوا الرجال، والنساء، والصبيان، فلا خلاف أنه لا يغسل النساء كما لا يغسل الرجال؛ لأنهن مخاطبات يخاصمن يوم القيامة من قتلهن، فيبقى عليهن أثر الشهادة؛ ليكون شاهداً لهن كالرجال"(10).
قلت : وهذا باعتبار القرية أو المدينة - مكان الغارة - أرضاً للمعركة لحصول القتل من الأعداء في هذا المكان، فأخذ قتلاها حكم من خرج للقتال عند القائلين بشهادتهم، فلو أنه سقط من دابته، أو رفسته أو وجد ميتاً ولا أثر به، أو سقط من شاهق في القتال، أو دهسته عربة فمات منها، أو عاد إليه سلاحه فيها، فالصحيح عند المالكية، والشافعية، والحنابلة، أنه يغسل ما لم يكن من فعل به ذلك هو العدو.
والسبب :
أنه لم يمت بفعل العدو مباشرة، ولا تسبباً، أشبه من مات مريضاً. والأصل وجوب الغسل والصلاة، فلا يسقط بالشك في مسقطه(11).
وخالف في ذلك أهل العلم من الحنفية فرأوا أن المقتول ظلماً بأي سبب ولو من لصوص، أو قطاع طرق، أو بغاة شهيد لايغسل (12) وهو أصح الروايتين عن الإمام أحمد رحمه الله.
الأدلة على عدم غسل هؤلاء الشهداء ما يلي :
1-عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصل على قتلى أحد، ولم يغسلهم"(13).
2- عن أنس بن مالك رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصل على قتلى أحد، ولم يغسلهم"(14).
3- عن ابن أبي الصغير: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أشرف على قتلى أحد فقال: شهدت على هؤلاء فزملوهم بدمائهم، وكلومهم"(15).
- آثار الصحابة 16)
وردت جملة من الآثار عن بعض الصحابة، والسلف الصالح تدل على أنهم لا يرون غسل المقتول في أرض المعركة أو خارجها بسبب العدو، وهذه بعضها :
1- عن قيس بن أبي حازم عن عمار بن ياسر رضي الله عنه أنه قال: "ادفنوني في ثيابي فإني مخاصم .-أي مخاصم من قتلني".
2- عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: قال سعد بن عبيد القارئ يوم القادسية: "إنا ملاقوا العدو غداً إن شاء الله وإنا مستشهدون، فلا تغسلوا عنا دماً ولا نكفن إلا في ثوب كان علينا".
3- عن ثابت بن عمارة قال سمعت غنيم بن قيس يقول: "الشهيد يدفن في ثيابه ولا يغسل".
4- عن أبي إسحاق أن رجلاً من أصحاب عبد الله قتله العدو فدفناه في ثيابه.
القول الثاني :
يغسل الشهيد في سبيل الله في هذه الحرب وهو مقتضى قول الحسن البصري، وسعيد بن المسيب(17) وسواء كان في أرض المعركة أم خارجها. بفعل العدو أم بغير فعله.
أدلتهم :
1-عن الحسن: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بحمزة حين استشهد فغسل"(18).
2- عن عامر أن حنظلة بن الراهب طهرته الملائكة(19).
3- عن قتادة عن سعيد بن المسيب والحسن قالا: "الشهيد يغسل، ما مات ميت إلا جنب"(20).
4-عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنه قال: "غسل عمر وكفن وحنط"(21).
وجه الدلالة :
أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مات مقتولاً ومع هذا غسل وكفن وحنط فدل على جواز الغسل في حق الشهيد .
قلت : وقد وافقهما (أي الحسن وابن المسيب) بعض الحنفية في غسل الصبيان المتأثرين بجراحات الحرب، فأثر عن أبي حنيفة رضي الله عنه أنهم يغسلون(22).
ودليله:
1-أنه ليس للصبي ذنب يمحوه السيف، فالقتل في حقه والموت حتف أنفه سواء فيغسل(23).
2- أن الصبي غير مكلف ولا يخاصم بنفسه في حقوقه في الدنيا، والخصم في حقوقه في الآخرة هو خالقه سبحانه وتعالى، والله غني عن الشهود فلا حاجة إلى إبقاء الشهادة عليه(24).
وخالفه أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى فقالا: لا يغسل الصبي(25).
ودليلهم :
1-لأن حال الصبيان في الطهارة فوق حال البالغين، فإذا لم يغسل البالغ إذا استشهد؛ لأنه قد تطهر فالصبي أولى(26).
ولا يخفى عليك ما في قول هذين الصاحبين من قوة خلافاً لإمامهما. فليس هناك دليل واضح يفرق بين الصبيان وغيرهم إذا قتلوا جميعاً في أرض المعركة بيد العدو.
أما دليل الحنابلة ومن وافقهم على استثناء الغسل للمقتول إن كان جنباً أو المرأة الحائض ونحوها فهو مايلي:
1- ماروي أن حنظلة بن الراهب رضي الله عنه قتل يوم أحد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما شأن حنظلة ؟ فإني رأيت الملائكة تغسله . فقالوا : إنه جامع، ثم سمع الهيعة فخرج إلى القتال"(27).
2- عَنْ مِقْسَمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما ، قَالَ: "أُصِيبَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَحَنْظَلَةُ بْنُ الْراهِبِ، وَهُمَا جُنُبَانِ، فَقَالَ النَّبِيُّ عليه السلام : إنَّى رَأَيْت الْمَلائِكَةَ تُغَسِّلُهُم"(28).
3- أَنَّ الشَّهَادَةَ عُرِفَتْ مَانِعَةً غَيْرَ رَافِعَةٍ فَلا تَرْفَعُ الْجَنَابَةَ(29).
4- عن إسحاق بن الحارث قال: "رأيت خالد بن الحواري رجلاً من أهل الحبشة من أصحاب النبي { أتى أهله فلما حضره الوفاة قال: اغسلوني غسلتين غسلة للجنابة وغسلة للموت"(30).
وجه الدلالة:
حيث دل هذا الدليل على أن غسل الجنابة لا يسقط عن الميت.
5-لأنه غسل واجب لغير الموت، فلم يسقط بالموت كغسل الجنابة(31).
قلت:
أما غسل الملائكة لحمزة رضي الله عنه فقد رواه الطبراني في الكبير قال ثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة ثني عمي القاسم ثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعدتنا شريك عن حجاج عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس قال: "أصيب حمزة بن عبدالمطلب وحنظلة الراهب وهما جنب فقال رسول الله {: رأيت الملائكة تغسلهما"(32).
قال ابن حجر: "غريب في ذكر حمزة"(33).
وأما غسل حنظلة فلا يعني ذلك وجوب غسل الشهيد؛ إذ إن الغاسل له هم الملائكة، وبماء المزن، وبين السماء والأرض، وهذا من كرامة الله تعالى له، وهذه أمور متعلقة بالآخرة، ولو كان الأمر وجوباً لغسله النبي صلى الله عليه وسلم، أو أمر به أصحابه حتى ولو غسلته الملائكة؛ لاختلاف الغسلين فليتأمل هذا جيداً(34).
وأما كون الشهادة غير رافعة للجنابة فيرد عليه بقصة أصيرم الذي أسلم وحمل سيفه وقاتل، ولم ينقل عنه -فيما نعلم - غسل. بل لم ينقل عنه أي عمل بعد إسلامه بنطق الشهادتين سوى حمل سيفه والقتال به، والكفر أعظم من الجنابة، وكل من أسلم يؤمر بالغسل، ومع هذا لم يؤثر غسل النبي صلى الله عليه وسلم له، ولا أمره لصحابته بذلك فكيف لا يقال به هنا ويقال به في غسل جنابة الجماع؟!
وأما كونه غسلاً وجب لغير الموت فلا نعلم دليلاً في الشرع يوجب قضاء الغسل عن الميت، ولو وجد لنقل واشتهر وتواتر؛ بل إن أعظم الأمور وهي الصلاة التي تجب في أحلك الساعات، وأصعب الظروف لم نجد لها دليلاً يوجب قضاءها عمّن لم يصلها للعذر أو لغيره، ولم يوجد دليل إلا في قضاء صيام النذر فيجب الوقوف عند النصوص.
الترجيح :
من خلال استعراض أقوال الفقهاء في حكم غسل القتلى في الحرب، ومن الذي يطلق عليه لفظ الشهادة منهم، ومن لا يطلق عليه هذا اللفظ تبين لنا أن هناك فريقاً من أهل العلم يرون أن كل من تسبب العدو في قتله فهو شهيد؛ في حين ذهب البعض منهم إلى أن الشهيد من مات ظلماً ولو لم يكن في قتال العدو بشرط أن لايكون له عوض مالي كما هو مذهب أهل العلم من الحنفية؛ وجميع هؤلاء لايغسلون لانصراف حكم الشهادة عليهم
في حين ذهب الحنابلة إلى أن الجنب، والنفساء، والحائض، يغسلون لا لأجل أنهم ليسوا شهداء بل لأجل ما ألم بهم من آثار الجنابة، والحيض، والنفاس.
والذي أراه راجحاً - والله أعلم بالصواب - أن الشهيد الذي لايغسل هو شهيد المعركة الذي جاهد لإعلاء كلمة الله فقط، وسواء كانت شهادته في أرض المعركة أو بعد خروجه من أرض المعركة متأثراً بجراحات بالغة كانت هي السبب في وفاته. وأما غيره من المصابين في غير أرض المعركة فلا ينصرف عليه اسم شهيد المعركة، فيغسل، ويكفن، ويصلى عليه ولو مات حريقاً، أو مسموماً بآثار الغازات السامة، مالم تكن هذه السموم من الغازات أصابته وهو في ساحة القتال، أو في حالة تربصه بالكفار لقتالهم، ويدل على ما أرجحه مايلي :
أولاً : أن هذا الشهيد هو الذي تنصرف إليه أدلة الشهادة في سبيل الله لإعلاء كلمته.
ثانياً: لم يؤثر عن النبي صلى الله عليه وسلم - فيما نعلم - أنه ترك غسل غيره من القتلى.
ثالثا: توفي النبي صلوات الله وسلامه عليه وهو يجد أثر السم الذي سمته به اليهودية بخيبر ومع هذا غسله الصحابة وصلوا عليه بأمره عليه السلام، وقد علمنا أن السم مما يقتل لكن كان هذا في غير ساحة المعركة، ولو كان لايغسل الميت بالسم في غير المعركة لنبه عليه النبي صلى الله عليه وسلم
رابعاً: لو وسعنا دائرة الشهادة بلا دليل وخصوصاً مع تطور الأسلحة المدمرة واستخدامها في هذا الزمان لدخل فيها الكثير ممن ليس لهم أدنى شيء في الدفاع عن الدين، بل سوف يطلق لفظ الشهادة على المتهاون في أمور كثيرة كمن يتهاون في عمود الإسلام الصلاة أو ربما يتركها أحياناً. خامساً: حينما طعن الفاروق بخنجر أبي لؤلؤة المجوسي، وسقط مضرحاً بدمائه في المحراب حمله الصحابه، وغسلوه، وصلوا عليه وهذا الفعل من الصحابة إجماع فكان دليلاً على اختصاص عدم الغسل بشهيد أرض المعركة فقط.
سادساً: لعل في أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإرجاع القتلى في غزوة أحد إلى مكان المعركة، ودفنهم فيها دليل على اختصاص المعركة بأحكام أخرى ومنها أن شهيدها فقط هو الذي لاينقل فكذلك حكم عدم غسله والصلاة عليه.
سابعاً: شهيد المعركة عاش لهيبها، واصطلى بنارها، وأصر على عدم تركها؛ إعلاء لكلمة الله، فاستحق أن يتميز عن باقي الشهداء بأن لا يغسل، ولا يصلى عليه؛ لثبوت حياته عند ربه كما أنه يغفر له عند أول قطرة من دمه، ويؤمن من فتنة القبر، إلى غير ذلك من الأمور التي تختص به، ولا يشاركه غيره.
مسألة: ومما يتعلق بمسألة عدم الغسل لشهيد المعركة:
إذا رفع من أرض المعركة قبل أن يموت، ثم مات بعدذلك، فقد اختلف العلماء في حكمه على قولين:
القول الأول: أنه يغسل ويكفن ويصلى عليه، وإليه ذهب أهل العلم من الحنفية (35)، والمالكية(36)، والشافعية في غير المشهور عندهم(37).
قال في شرح السير الكبير: "فَإِذَا حُمِلَ مِنْ مَصْرَعِهِ حَيًّا فَمَاتَ عَلَى أَيْدِي الرِّجَالِ أَوْ مَرِضَ فِي خَيْمَتِهِ فَهُوَ مُرْتَثٌّ؛ لأَنَّهُ نَالَ بَعْضَ الرَّاحَةِ"(38).
الأدلة على ذلك :
1- "تَغْسِيلُهُ صلى الله عليه وسلم سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ"(39).
ووجه الدلالة:
أنه غسله، وسبب وفاته هي إصابته في غزوة الخندق(40).
2- لأن الأصْل وُجُوبُ الْغُسْلِ وَالصَّلاةِ وقدخَفَّ عليه أَثَرُ الظُّلْمِ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى شَهِيدِ الْمَعْرَكَةِ الَّذِي يَمُوتُ فِي أَرْضِهَا
القول الثاني : أنه يعامل معاملة الشهيد.
الأدلة: (41)
1-عن زيد بن صوحان لما أصيب في المعركة ولم يمت الا بعد مدة أنه قال : لا تنزعوا عني ثوباً إلا الخفين، ولا تغسلوا عني دماً، وارمسوني في الأرض رمساً؛ فإني رجل محاج أحاج يوم القيامة من قتلني .
وجه الدلالة :
فيه دليل على أنه لا ينزع عن الشهيد من ثيابه إلا ماليس من جنس الكفن، وأنه لا يغسل ليكون ما عليه من الدم شاهداً له يوم القيامة.
2 - عن مغيرة عن إبراهيم قال : "إذا رفع القتيل دفن في ثيابه، وإذا رفع وبه رمق صنع به ما يصنع بغيره".
3- عن هشام بن حسان قال: "كان محمد إذا سئل عن الشهيد يغسل؟ حدث عن حجر بن عدي إذ قتله معاوية قال : قال حجر: لا تطلقوا عني حديداً وتغسلوا عني دماً، ادفنوني في وثاقي ودمي، ألقى معاوية عند الجادة غداً".
الترجيح:
من خلال استعراض الأقوال والأدلة السابقة اتضح لنا ما ذهب إليه القائلون بالغسل من الاستدلال بقصة سعد بن معاذ في حين استدل الآخرون بآثار عن الصحابة وليس هناك دليل فصل في المسألة فسعد بن معاذ قد أندمل جرحه فترة حتى حكم في بني قريظة ولم يبق أثر الجراحة فيه باستمرار حتى مات من إصابته يوم الخندق فغسل النبي { له لا يعني أن المتأثر بالجراح من أرض المعركة ليس بشهيد إذا لم يمت في ساحتها بل تغسيله - والله أعلم بالصواب - كان لانتقاء الجراح عنه مدة معينة.
فالراجح والله أعلم: أن المتأثر بالجراح من أثر القتال إذا حمل إلى معسكره أو حتى منزله، وبقيت عليه أثر الجراحة وأوهنته حتى كانت السبب في وفاته أنه يعتبر شهيداً لا يغسل ولا يصلى عليه كشهيد أرض المعركة سواء وذلك لما يلي:
أولاً: لاستوائه مع من مات في أرض المعركة في مقاتلة العدو والصبر على القتال.
ثانياً: أن بقاءه يوماً أو يومين تحت آلام جراحه ثم يلفظ أنفاسه يستحق
به لفظ الشهادة من باب أولى من شهيد أرض المعركة ويكون ما أصابه من ألم رفعة في درجاته.
ثالثاً: على اعتبار أن الشهيد المرتث يغسل قياساً على سعد بن معاذ يجاب عليه بما يلي:
1- أن سعد بن معاذ أصيب في أكحله قبل ابتداء المعركة، قال ابن حجر: "عن موسى بن عقبة أن مدة الحصار في غزوة الخندق كانت عشرين يوماً ولم يكن بينهم قتال: إلا مراماة بالنبل والحجارة، وأصيب منها سعد بن معاذ بسهم فكان سبب موته"(42).
2- وعلى التسليم باستدلالهم بقصة سعد فإنها تكون حادثة عين خاصة به ولايقاس عليه غيره من الشهداء والله أعلم.
مسألة:
إذا تبين لك مدى اختلاف العلماء في غسل الشهيد في أرض المعركة، أوخارجها بسبب قتال الكفار فإنهم اختلفوا في الصلاة عليه على قولين:
القول الأول:
ذهب أهل العلم من المالكية، والشافعية، والحنابلة في أصح الروايتين إلى أنه لايصلى على الشهيد بل قال بعض المالكية بالتحريم(43).
الأدلة :
1- لِمَا وَرَدَ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ فِي قَتْلَى أُحُدٍ بِدَفْنِهِمْ، وَلَمْ يُغَسَّلُوا وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِمْ". وَجَاءَ مِنْ وُجُوهٍ مُتَوَاتِرَةٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ وَقَالَ فِي قَتْلَى أُحُدٍ: "زَمِّلُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ"(44).
وأجيب عن هذا الدليل بجواز أن يكون تركه ذلك؛ لأن سنتهم أن لا يصلى عليهم، كما كان من سنتهم أن لا يغسلوا. ويجوز أنه عليه الصلاة والسلام لم يصل عليهم، وصلى عليهم غيره؛ لما كان به حينئذ من ألم الجراح، وكسر الرباعية، وما أصابه يومئذ من المشركين.
2- َلَعَلَّ تَرْكَ الْغُسْلِ وَالصَّلَاةِ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ جَمَاعَةُ الْمُشْرِكِينَ إرَادَةُ أَنْ يَلْقَوْا اللَّهَ جَلَّ وَعَزَّ بِكُلُومِهِمْ لِمَا جَاءَ فِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ رِيحَ الْكَلِمِ رِيحُ الْمِسْكِ وَاللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ، وَاسْتَغْنَوْا بِكَرَامَةِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ عَنْ الصَّلاةِ لَهُم(45).
3- أن الصلاة على الميت استغفار له، وترحم عليه. والشهيد يستغني عن ذلك، فإن السيف محاء للذنوب(46).
واجيب47) بعدم التسليم، فالصلاة على الميت من حق المسلم على المسلم كرامة له، والشهيد أولى بهذه الكرامة . ولا إشكال أن درجة الشهيد دون درجة من غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وقد صلى عليه أصحابه.
والناس يقولون: وارحم محمداً وآل محمد في الصلاة، فعلمنا أنه لا يبلغ الشهيد درجة يستغني بها عن استغفار المؤمنين، والدعاء بالرحمة له.
4- أن في ذلك حِكْمَةُ بإبْقَاء أَثَرِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ، وَالتَّعْظِيمُ لَهُمْ بِاسْتِغْنَائِهِمْ عَنْ دُعَاءِ الْقَوْمِ . وَوَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : "لَيْسَ شَيْءٌ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ قَطْرَتَيْنِ وَأَثَرَيْنِ قَطْرَةٍ مِنْ دُمُوعٍ فِي خَشْيَةِ اللَّهِ، وَقَطْرَةِ دَمٍ تُهْرَاقُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَمَّا الْأَثَرَانِ فَأَثَرٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَثَرٌ فِي فَرِيضَةٍ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ"(48).
القول الثاني :
ذهب أهل العلم من الحنفية،(49) ورواية عند الحنابلة، والخلال، وأبو الخطاب منهم،(50) والإمام الثوري(51) إلى وجوب الصلاة على من مات في أرض الحرب في حال قتل الكفار له.
الدليل:
1- رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام: "صَلَّى عَلَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ، وَكَانَ يُؤْتَى بِتِسْعَةٍ تِسْعَةٍ، وَحَمْزَةُ عَاشِرُهُمْ، فَيُصَلِّي عَلَيْهِمْ . وَقَالُوا : إنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَلَّى عَلَى غَيْرِهِمْ"(52).
2- عن حصين بن عبد الرحمن، قال : سمعت أبا مالك الغفاري، رضي الله عنه قال : "كان قتلى أحد يؤتى بتسعة وعاشرهم حمزة، فيصلي عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يحملون، ثم يؤتى بتسعة، فيصلي عليهم وحمزة مكانه، حتى صلى عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم"(53).
3- عن أنس بن مالك رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر يوم أحد بحمزة، وقد جدع، ومثل به، فقال: لولا أن تجزع صفية لتركته حتى يحشره الله من بطون الطير والسباع . فكفنه في نمرة، إذا خمر رأسه بدت رجلاه، وإذا خمر رجليه بدا رأسه، فخمر رأسه، ولم يصل على أحد من الشهداء غيره وقال: "أنا شهيد عليكم يوم القيامة"(54).
وجه الدلالة :
في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم، لم يصل يومئذ على أحد من الشهداء غير حمزة؛ فإنه صلى عليه، وهو أفضل شهداء (أحد). فلو كان من سنة الشهداء أن لا يصلى عليهم، لما صلى على حمزة، كما لم يغسله؛ إذ كان من سنة الشهداء أن لا يغسلوا. وصار ما في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم، صلى على حمزة، ولم يصل على غيره؛ فهذا يحتمل أن يكون لم يصل على غيره، لشدة ما به مما ذكرنا، وصلى عليهم غيره من الناس(55).
4- وَعَنْ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ،: "أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَعْرَابِ جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَآمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَهُ ثُمَّ قَالَ : أُهَاجِرُ مَعَك . فَأَوْصَى بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْضَ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا كَانَتْ غَزْوَةٌ، غَنِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَبْيًا فَقَسَمَ وَقَسَمَ لَهُ، فَأَعْطَى أَصْحَابَهُ مَا قُسِمَ لَهُ، وَكَانَ يَرْعَى ظَهْرَهُمْ . فَلَمَّا جَاءَ دَفَعُوهُ إلَيْهِ فَقَالَ : مَا هَذَا ؟ قَالُوا : قَسْمٌ قَسَمَهُ لَك النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَأَخَذَهُ فَجَاءَ بِهِ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : مَا هَذَا ؟ قَالَ : قَسَمْته لَك، قَالَ : مَا عَلَى هَذَا اتَّبَعْتُك، وَلَكِنِّي اتَّبَعْتُك عَلَى أَنْ أُرْمَى إلَى هَاهُنَا، وَأَشَارَ إلَى حَلْقِهِ، بِسَهْمٍ فَأَمُوتَ فَأَدْخُلَ الْجَنَّةَ . فَقَالَ : إنْ تَصْدُقْ اللَّهَ يَصْدُقْك . فَلَبِثُوا قَلِيلًا ثُمَّ نَهَضُوا فِي قِتَالِ الْعَدُوِّ فَأُتِيَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُحْمَلُ قَدْ أَصَابَهُ سَهْمٌ حَيْثُ أَشَارَ . فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : أَهُوَ هُوَ ؟ قَالُوا : نَعَمْ، قَالَ : صَدَقَ اللَّهَ فَصَدَقَهُ . ثُمَّ كَفَّنَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي جُبَّته ثُمَّ قَدَّمَهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ فَكَانَ فِيمَا ظَهَرَ مِنْ صَلَاتِهِ : اللَّهُمَّ هَذَا عَبْدُك خَرَجَ مُهَاجِرًا فِي سَبِيلِك فَقُتِلَ شَهِيدًا، أَنَا شَهِيدٌ عَلَى ذَلِكَ"(56).
وجه الدلالة :
في هذا الحديث إثبات الصلاة على الشهداء الذين لا يغسلون؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث لم يغسل الرجل وصلى عليه. فثبت بهذا الحديث أن حكم الشهيد المقتول في سبيل الله في المعركة يصلى عليه ولا يغسل.
5- رُوِيَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ - رضي الله عنه - قَالَ: "إنَّهُ عليه السلام خَرَجَ يَوْمًا فَصَلَّى عَلَى أَهْلِ أُحُدٍ صَلَاتَهُ عَلَى الْمَيِّتِ ثُمَّ انْصَرَفَ إلَى الْمِنْبَرِ"(57).
6- لأن الصلاة على الميت لإظهار كرامته؛ ولهذا اختص به المسلمون "ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة على المنافقين" والشهيد أولى بما هو من أسباب الكرامة. والعبد وإن تطهر من الذنوب فلا تبلغ درجته درجة الاستغناء عن الدعاء له. ألا ترى أنهم صلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا إشكال أن درجته فوق درجة الشهداء(58).
7- أن الشهيد حي في أحكام الآخرة؛ كما قال تعالى: بل أحياء عند ربهم فأما في أحكام الدنيا فهو ميت يقسم ميراثه، وتتزوج امرأته بعد انقضاء العدة، وفريضة الصلاة عليه من أحكام الدنيا فكان فيه ميتاً يصلى عليه(59).
8- عن عقبة بن عامر قال : "إن آخر ما خطب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه صلى على شهداء أحد، ثم رقي على المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: إني لكم فرط وأنا عليكم شهيد" وَ عنه، "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قتلى أحد، بعد مقتلهم بثمان سنين"(60).
وجه الدلالة: قال الإمام الطحاوي: لا يخلو صلاته عليهم في ذلك الوقت من أحد ثلاثة معان : إما أن يكون سنتهم كانت أن لا يصلى عليهم، ثم نسخ ذلك الحكم بعد، بأن يصلى عليهم. أو أن تكون تلك الصلاة التي صلاها عليهم تطوعاً، وليس للصلاة عليهم أصل في السنة والإيجاب . أو يكون من سنتهم أن لا يصلى عليهم بحضرة الدفن، ويصلى عليهم بعد طول هذه المدة . لا يخلو فعله صلى الله عليه وسلم من هذه المعاني الثلاثة. فاعتبرنا ذلك، فوجدنا أمر الصلاة على سائر الموتى، هو أن يصلى عليهم قبل دفنهم. ثم تكلم الناس في التطوع عليهم قبل أن يدفنوا، وبعدما يدفنون، فجوز ذلك قوم وكرهه آخرون. فأمر السنة فيه أوكد من التطوع؛ لاجتماعهم على السنة، واختلافهم في التطوع . فإن كان قتلى أحد ممن تطوع بالصلاة عليهم كان في ثبوت ذلك ثبوت السنة في الصلاة عليهم قبل أوان وقت التطوع بها عليهم، وكل تطوع فله أصل في الفرض. فإن ثبت أن تلك الصلاة كانت من النبي صلى الله عليه وسلم تطوعاً تطوع به، فلا يكون ذلك إلا والصلاة عليهم سنة، كالصلاة على غيرهم. وإن كانت صلاتهم عليهم لعلة نسخ فعله الأول، وتركه الصلاة عليهم، فإن صلاته هذه عليهم، توجب أن من سنتهم الصلاة عليهم، وأن تركه الصلاة عليهم عند دفنهم منسوخ . وإن كانت صلاته عليهم، إنما كانت لأن هكذا سنتهم، أن لا يصلى عليهم إلا بعد هذه المدة، وأنهم خصوا بذلك، فقد يحتمل أن يكون كذلك حكم سائر الشهداء، أن لا يصلى عليهم إلا بعد مضي مثل هذه المدة . ويجوز أن يكون سائر الشهداء يعجل الصلاة عليهم غير شهداء أحد، فإن سنتهم كانت تأخير الصلاة عليهم أنه قد ثبت بكل هذه المعاني أن من سنتهم ثبوت الصلاة عليهم إما بعد حين وإما قبل الدفن(61).
9- عن سعيد بن عبد الله قال : سمعت مكحولاً يسأل عبادة بن أوفى النميري عن الشهداء يصلى عليهم، فقال عبادة : نعم .
وجه الدلالة :
فهذا عبادة بن أوفى يقول هذا ومغازي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كان جلها هناك نحو الشام، فلم يكن يخفى على أهله ما كانوا يصنعون بشهدائهم من الغسل، والصلاة، وغير ذلك (62).
الترجيح:
من خلال استعراض أقوال الفقهاء وأدلتهم في الصلاة على الشهيد يتضح لنا قوة ما ذهب إليه القائلون بأنه لا يصلى عليه لما استدلوا به من أدلة قوية في مقابل ضعف أدلة القول الثاني وإجابتهم عليها، وكذلك في القول بعدم الصلاة تمييز للشهيد بسبب القتال مع الكفار عن غيره فهم أحياء عند ربهم يرزقون وليسوا كسائر الأموات الذين تجب الصلاة عليهم.
مسألة: غسل الجثة المتمزقة أو الأعضاء المتطايرة من الجسد المقتول من جراء الضرب بالأسلحة المدمرة:
إذا تبين لنا ماذهب إليه القائلون بوجوب الصلاة على الميت شهيداً كان أم غير شهيد فإنهم اختلفوا ومعهم غيرهم من القائلين بعدم غسل الشهيد في غسل الجثة المتمزقة، أو الأعضاء المتطايرة من الجسد المقتول في أرض المعركة، أو في المنازل، أو في الطرقات من جراء الضرب بهذه الأسلحة الفتاكة وماشابهها من أسلحة الحرب؛ كمايلي:
القول الأول:
ذهب أهل العلم من الشافعية ؛(63) والظاهرية(64)، إلى أنه تغسل هذه الأعضاء، ويصلى عليها.
الأدلة :
1- عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ : إنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ صَلَّى عَلَى رُؤوسٍ(65).
2- أن حُرْمَة قَلِيلِ الْبَدَنِ لأنَّهُ كَانَ فِيهِ الرُّوحُ كحُرْمَةٌ كَثِيرَةٌ(66).
3- روي عن عمر رضي الله عنه أنه صلى على عظام بالشام(67).
4- لأن صلاة الجنازة شرعت لحرمة الآدمي، وكذا الغسل وكل جزء منه محترم(68).
5- روي عن أسماء، أنها غسلت ابنها، فكانت تنزعه أعضاء، كلما غسلت عضواً طيبته، وجعلته في كفنه(69).
6- لأن أبا أيوب صلى على رجل. قاله أحمد(70).
7- إجماع الصحابة رضي الله عنهم(71) قال الشافعي: ألقى طائر يداً بمكة من وقعة الجمل، فعرفت بالخاتم، وكانت يد عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد، فصلى عليها أهل مكة . وكان ذلك بمحضر من الصحابة، ولم نعرف من الصحابة مخالفاً في ذلك(72).
وأجيب :
أن حديث أهل مكة لا حجة فيه؛ لأن الراوي لم يرو من هو الذي صلى عليه حتى ننظر أهو حجة أم لا، أو نحمل الصلاة على الدعاء، وكذا حديث عمر وأبي عبيدة رضي الله عنهما ألا ترى أن العظام لا يصلى عليها بالإجماع(73).
القول الثاني:
ذهب بعض أهل العلم إلى أنه لايغسل، ولا يصلى عليه حتى يوجد أكثره وهو قول الحنفية(74). ورواية ابن القاسم من المالكية عن مالك(75).
الأدلة:
1- أن الأقل تابع للأكثر فإذا غاب الأكثر كان بمنزلة مغيب جميعه ولا يصلى على غائب(76).
2- عن ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما أنهما قالا : "لا يصلى على عضو" وهذا يدل على أنه لا يغسل؛ لأن الغسل لأجل الصلاة(77).
3- لأن الشرع ورد بغسل الميت، والميت اسم لكله وليس لبعضه القليل(78).
4- لأن النصف فأقل ليس بميت حقيقة وحكماً(79).
5- ولأن الغسل للصلاة وما لم يزد على النصف لا يصلى عليه، فلا يغسل أيضاً(80).
القول الثالث :
قال ابن حبيب عن مالك: إن كان مجتمعاً صلي عليه، وإن كان مقطعاً لم يغسل ولم يصل عليه(81).
الدليل:
1- أن تقطيعه منع غسله، وإذا منع غسله يبطل حكم الصلاة عليه كالشهيد؛ ولأن في غسله انتهاك الحرمة، ومتابعة لما تقدم من التمثيل(82).
القول الرابع:
لايغسل ولا يصلى عليه، وإليه ذهب أهل العلم من الحنفية حتى لو وجد أكثره.
الأدلة:
1-لأن المشروع الصلاة على الميت؛ وذلك عبارة عن بدنه لا عن عضو من أعضائه(83).
2- لو قلنا يصلى على عضو إذا وجد لكان يصلى على عضو آخر إذا وجد أيضاً فيؤدي إلى تكرار الصلاة على ميت واحد؛ وذلك غير مشروع عندنا(84).
الترجيح:
التوسط في المسألة أن تقول بأن الصلاة على الميت (غير شهيد المعركة) لا تسقط ولو لم يوجد إلا بعضه وليس غالبه أو نصفه وذلك لما يلي:
1- أن الصلاة على الميت في النصوص لم تفرق بين من كان متفرق الأشلاء أو لم يكن كذلك بل أتت بالعموم فتبقى على العموم مالم يرد مخصص، فما عثر عليه من جسده يصلى عليه والدعاء لكل الجسد وليس للموجود فقط.
2- أن في الصلاة على ما وجد من جسده اتباع لقول الله تعالى: فاتقوا الله ما \ستطعتم 16 {التغابن: 16}.
والاستطاعة هي في الصلاة على ما وجد وأما المعدوم فهو خارج عن حد الاستطاعة.
وبهذا تكون الصلاة على الميت المتفرق الأشلاء قد سقطت عن المصلين ولا تجب عليهم مرة أخرى لو وجدوا أجزاءً أخرى وذلك لعدم ورود دليل صحيح يوجب الصلاة على ما وجد من أجزاء الميت.
مسألة أخرى:
إن خيف تقطعه بالغسل صب عليه الماء صباً، ولم يمس، فإن خيف تقطعه بالماء لم يغسل، وييمم إن أمكن، كالحي الذي يؤذيه الماء، وإن تعذر غسل الميت لعدم الماء ييمم، وإن تعذر غسل بعضه دون بعض، غسل ما أمكن غسله، وييمم الباقي، كالحي سواء ولم أجد هذا التفصيل عند غير الحنابلة (85).
مسألة أخرى: النية عند الصلاة على أجزاء الميت:
يذكر فقهاء الشافعية أنه في صلاته على العضو الموجود ينوي الصلاة على الميت كله قال صاحب الغرر البهية في شرحه على الدرر عند قوله (ينوي الكل) أي: وجوباً إن كانت بقيته غسلت ولم يصل عليها، وندباً إن كان قد صلى عليها، فإن لم تغسل البقية وجبت الصلاة على العضو بنيته فقط، فإن نوى الجملة لم تصح، فإن شك في غسل البقية لم تجز نيتها إلا إن علق(86).
@ الهوامش:
1 - أخرجه أحمد (4-392)، والبخاري (1-42). ومسلم (6-46)، والنسائي (6-23) .
2- أخرجه أحمد (2-310)، ومسلم (6-51)، وابن ماجه (2804).
3- أخرجه الحميدي (83). وأحمد (1-187) (1628) وابن ماجه (258). والنسائي (7-115) .
4- أخرجه البخاري في صحيحه (2675)، ومسلم (4921)، وأحمد في مسنده (12110).
5 -انظر: المبسوط للسرخسي(2-54)، و بدائع الصنائع (1-903) والبحر الرائق (2-181) والفتاوى الهندية (1-186) .
6- انظر: المنتقى شرح الموطأ (2-15 )، ومواهب الجليل (2-210) وشرح الخرشي على مختصر خليل (2-109) ومنح الجليل (1-522) وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير(1-423) وبلغة السالك للدردير (1-574) .
7- انظر: الأم للشافعي (ا-306)، والمجموع شرح المهذب (5-213)، وأسنى المطالب (1-313)، والغرر البهية (2-103)، وحاشية الجمل (2-190)، ونهاية المحتاج (2-494)، وحاشية قليوبي وعميرة (1-395) .
8- انظر: المغني لابن قدامة (1-211) وكشاف القناع (2-126) وشرح منتهى الإرادات (1-367) والأنصاف في معرفة الراجح من الخلاف (2-538) .
9- المحلى بالآثار لابن حزم (3-262) .
10 - انظر: المبسوط (2-54) .
11- انظر: مطالب أولي النهى (1-863).
12- المبسوط للسرخسي(2-54).
13- أخرجه البخاري في صحيحه (1278) وأبو داود في السنن (3138)، والترمذي (1036)، وقال: حديث حسن صحيح. والنسائي في السنن (1954)، وابن ماجه (1514)، وأحمد (13777)، ومسند الشافعي (1606).
14- أخرجه الترمذي في السنن (1036).
15- المصنف لابن أبي شيبة (607/7).
16- انظر: المصنف لابن أبي شيبة (7-607 ) .
17- انظر: فتح الباري لابن حجر (212/3).
18- المصنف لابن أبي شيبة (7-607 ) .
19- أنظر: الحاشية (27).
20 - المصنف لابن أبي شيبة (607/7).
21- المرجع السابق.
22- المبسوط للسرخسي (2-54) .
23- المرجع السابق.
24 - المرجع السابق .
25- انظر: المرجع السابق.
26- المرجع السابق.
27- من حديث عبدالله بن الزبير أخرجه الحاكم (204/3-105) وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي وأخرجه البيهقي (15/4) والطبراني في الكبير كما في مجمع الزوائد (23/3) وقال الهيثمي: وإسناده حسن.
28- انظر: حاشية (32).
29 - انظر: نصب الراية .
30- رواه الطبراني في الكبير انظر: مجمع الزوائد (23/3) قال الهيثمي: وإسحاق لم أجد ترجمته وبقية رجاله ثقات.
31- انظر: المغني لابن قدامه (205/2).
32- أخرجه الطبراني في الكبير (12094) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (303) إسناده حسن. قلت في سنده شريك بن عبدالله النخعي. قال ابن حجر: صدوق يخطئ كثيراً، وقال بعضهم: سيئ الحفظ. انظر: تقريب التهذيب (2787)، والكاشف (2285)، والكامل في الضعفاء (964).
33- فتح الباري (212/3).
34- انظر: فتح الباري لابن حجر (212/3) كتاب الجنائز.
35- بدائع الصنائع (1-306)، والبحر الرائق (2-181)، والفتاوى الهندية (1-186) .
36- المنتقى شرح الموطأ (2-15).
37 - حاشية قليوبي وعميرة (1-395).
38- شرح السير الكبير: (1-230) .
39- انظر: المصنف لابن أبي شيبة (496/8).
40- المغني (206/2)، منار السبيل (163/1)، والمبدع (237/2) .
41- انظر: المصنف لابن أبي شيبة (7-607 ).
42- فتح الباري (193/7).
43 - انظر: المدونة للإمام مالك بن أنس (1-259)، ومواهب الجليل (2-248) وشرح الخرشي على مختصر خليل (2-111)، ومنح الجليل (1-519)، وبلغة السالك للدردير (1-577)، أحكام القرآن لابن العربي (2-69)، والمدخل (3-253)، والتاج والإكليل (3-65)، والفواكه الدواني (1-290)، والأم للشافعي (1-304)، والمجموع شرح المهذب ( 5-221)، وأسنى المطالب (1-315)، والغرر البهية (2-101)، وحاشية الجمل (2-193)، ونهاية المحتاج (2-498)، وحاشية قليوبي وعميرة (1-396)، فتاوى السبكي (2-35)، الأشباه والنظائر للسيوطي (446)، تحفة المحتاج (3-164)، مغني المحتاج (3-34)، حاشية البجيرمي (1-488)، والمغني لابن قدامة (2-205)، وكشاف القناع (2-100 )، والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف (2-501)، الفروع لابن مفلح (2-213)، ودقائق أولي النهى (1-355).
44 - سبق تخريجه.
45- انظر: شرح معاني الآثار (1-507) .
46-انظر: المغني لابن قدامة( 2-205)، وكشاف القناع (2-100)، والأم للشافعي (1-304 )، والمجموع شرح المهذب ( 5-221).
47- شرح السير الكبير (1 -232) .
48 - أخرجه الترمذي في السنن (1669) عن أبي أمامة، وقال: هذا حديث حسن غريب والطبراني في الكبير (7918)، وفيه الوليد بن جميل الفلسطيني صدوق يخطئ انظر: التقريب (581/1)، والكامل في الضعفاء (362/8)، وانظر: المبسوط للسرخسي (2-50)، وفتح القدير (2-142)، والعناية شرح الهداية (2-144)، وحاشية ابن عابدين (2-250)، و انظر: المغني لابن قدامة(2-205).
49- انظر: المبسوط للسرخسي ( 2-50 )، وبدائع الصنائع (1-322 )، والبحر الرائق (2-190 )، والفتاوى الهندية ( 2-25 )، وشرح معاني الآثار ( 1-507)، نصب الراية (2-370)، درر الأحكام (1-150)، وتبيين الحقائق (1-235)، وفتح القدير (2-142)، والعناية شرح الهداية (2-144)، وحاشية ابن عابدين (2-250).
50 - انظر: المغني لابن قدامة( 2-205 ).
51- المرجع السابق .
52- أخرجه الطبراني في الكبير (2936).
53- أخرجه البيهقي في السنن (6902) والدارقطني في السنن (98/2).
54- أخرجه الحاكم في المستدرك (2558) وهو حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.
55- انظر: شرح معاني الآثار (1-507)
56- أخرجه النسائي في سننه (1952) والحاكم في المستدرك (6527)، وعبدالرزاق في المصنف (9597)، والبيهقي في الكبرى (6917) والطبراني في الكبير (7108).
57- انظر: شرح معاني الآثار (1-507)، والحديث أخرجه أبو دادود (3224)، وابن حبان (3199)، والبيهقي في السنن (6910)، والدارقطني (78/2)، والطبراني في المعجم الكبير (768).
58- انظر: المبسوط للسرخسي ( 2-50 )، وبدائع الصنائع (1-322)، والبحر الرائق (2-190)، وشرح معاني الآثار (1-507).
59- انظر: المبسوط للسرخسي (2-50) وبدائع الصنائع (1-322).
60- سبق تخريجه.
61- شرح معاني الآثار ( 1-507).
62-انظر: شرح معاني الآثار ( 1-507).
63- انظر: الأم للشافعي (306/1) وما بعدها.
64- المحلى (3-362).
65 - انظر: المصنف لابن أبي شيبة (235/3) والأم للشافعي (1-306).
66- انظر: المغني لابن قدامه(2-311)- الأم للشافعي (1-306).
67 - انظر: المصنف لابن أبي شيبة (235/3) بدائع الصنائع (1-309).
68- بدائع الصنائع (1-309).
69- المغني لابن قدامه(2-311).
70 - انظر: المصنف لابن أبي شيبة (235/3).
71 - المغني لابن قدامه (2-311).
72- المغني لابن قدامه (2-311).
73- بدائع الصنائع (1-309).
74- بدائع الصنائع1-309).
75 - (المنتقى 2-15).
76- ( المنتقى 2-15).
77- بدائع الصنائع (1-309).
78- بدائع الصنائع (1-309).
79- بدائع الصنائع (1-309).
80- بدائع الصنائع (1-309).
81 - المنتقى (2-15).
82 - المنتقى (2-15).
83- انظر: المبسوط للسرخسي ( 2-50 ) .
84 - انظر: المبسوط للسرخسي ( 2-50 ) .
85- المغني لابن قدامه(2-311)، والكافي (254/1).
86 - الغرر البهية (2-103).
الشيخ- عايض بن مقبول القرني
القتلى في أرض المعركة، أو في المنازل، أو الطرقات، أو الملاجئ سواء باشروا القتال أم لم يباشروه من قريب أو بعيد؛ إذا أصيب هؤلاء بآثار جراح من شظايا متطايرة، أو غازات سامة، أو متجرثمة، أو مواد حارقة؛ فماتوا على الفور متفحمين أو متسممين، أوغير ذلك، أو ارتث حال البعض ثم مات بعد حين، فما الحكم في تغسيلهم والصلاة عليهم على اعتبارهم شهداء أو غير شهداء؟
ثم على القول بوجوب الغسل كيف يتم تغسيلهم عند التمزق،أو التفحم من جراء انفجار ألغام أرضية، أو قصف جوي، أو بري، أو حرب مدن؟
بل كيف تتم الصلاة على القتيل بعد تطاير أجزائه، واختفاء بعضها مع احتمال أن توجد بعد أن يصلى على الأعضاء الموجودة؟
كل هذه من الأمور التي ينبغي معرفة حكم الله تعالى فيها لا سيما مع تفشي القتل، وتطور الأسلحة، واقتران ذلك بموت الضمير الإنساني عند مسعري الحروب في هذا الزمان على وجه الخصوص.
وقبل أن نلج في بيان الحكم نود تسليط الضوء على المراد بالشهيد عند الفقهاء حتى يتسنى الفصل في مسائل الغسل والصلاة على هؤلاء القتلى.
من هو الشهيد؟!
الشهيد عند الفقهاء على قسمين :
القسم الأول : شهيد الدنيا والآخرة، و هو الذي يقتل في قتال مع الكفار، مقبلاً غير مدبر؛ لتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا هي السفلى، دون غرض من أغراض الدنيا، وقد ورد بيان هذا القسم في الأحاديث التالية :
1- عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال : " إن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال مستفهماً: الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذكر، والرجل يقاتل ليرى مكانه، فمن في سبيل الله ؟ قال عليه الصلاة والسلام:"من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله"(1).
القسم الثاني: شهيد الآخرة : وهو المقتول ظلماً من غير قتال، ومن مات بداء البطن، أو بالطاعون، أو بالغرق، والنفساء التي تموت في طلقها، ونحو ذلك . واستثني من الغريق العاصي بركوبه البحر كأن كان الغالب فيه عدم السلامة، أو ركوبه لإتيان معصية من المعاصي، ومن الطلق الحامل بزنى، ويدل على هذا القسم مايلي :
1- عن أبي هريرة رضي الله عنه: قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما تَعُدُّونَ الشهيدَ فيكم ؟ قالوا: يا رسول الله، مَنْ قُتِلَ في سبيل الله فهو شهيدٌ، قال : إنَّ شُهدَاءَ أُمَّتي إذاً لَقليلٌ، قالوا: فَمن هُمْ يا رسولَ الله ؟ قال : من قُتِلَ في سبيل الله فهو شهيدٌ، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في الطاعون فهو شهيد، ومن مات في البَطْنِ فهو شهيد، قال ابنُ مِقْسَمٍ : أشهدُ على أبيك- يعني أبا صالح- أنَّهُ قال: والغريق شهيدٌ"(2).
2- عن سعيد بن زيد رضي الله عنه: قال سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَنْ قُتلَ دُونَ مالهِ فهو شهيد، ومَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فهو شهيد، ومن قتلَ دون دِينه فهو شهيد، ومن قُتلَ دُونَ أهْلهِ فِهو شهيد"(3).
3- وعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الطاعون شهادة لكل مسلم"(4).
ثانياً: تغسيل الشهداء على ضوء هذا التقسيم :
اختلف أهل العلم في ذلك على قولين:
القول الأول:
ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية(5)، والمالكية(6)، والشافعية(7)، والحنابلة(8)، و الظاهرية(9)، الى أن القسم الأول وهو شهيد الحرب الذي قتله العدو في المعركة فمات محترقاً بعضه، أو كله، أو وجد وقد تفحمت جثته من شدة الاحتراق، أو وجد في مكان المعركة وبه جراح مات على إثرها أنه لايغسل؛ بل يدفن في جراحه، سواء كان ذلك في قصف جوي، أم رمي بري، أم بحري، أم حرب نووية، أم انفجار لغم، أم في غيرها.
واستثنى الحنابلة إذا كان المقتول جنباً، أو امرأة حائضاً، أو نفساء طهرت من حيضها، أو نفاسها فإن هؤلاء يغسلون لما سيأتي من الأدلة .
قال الإمام السرخسي رحمه الله تعالى: "وإذا أغار أهل الحرب على قرية من قرى المسلمين فقتلوا الرجال، والنساء، والصبيان، فلا خلاف أنه لا يغسل النساء كما لا يغسل الرجال؛ لأنهن مخاطبات يخاصمن يوم القيامة من قتلهن، فيبقى عليهن أثر الشهادة؛ ليكون شاهداً لهن كالرجال"(10).
قلت : وهذا باعتبار القرية أو المدينة - مكان الغارة - أرضاً للمعركة لحصول القتل من الأعداء في هذا المكان، فأخذ قتلاها حكم من خرج للقتال عند القائلين بشهادتهم، فلو أنه سقط من دابته، أو رفسته أو وجد ميتاً ولا أثر به، أو سقط من شاهق في القتال، أو دهسته عربة فمات منها، أو عاد إليه سلاحه فيها، فالصحيح عند المالكية، والشافعية، والحنابلة، أنه يغسل ما لم يكن من فعل به ذلك هو العدو.
والسبب :
أنه لم يمت بفعل العدو مباشرة، ولا تسبباً، أشبه من مات مريضاً. والأصل وجوب الغسل والصلاة، فلا يسقط بالشك في مسقطه(11).
وخالف في ذلك أهل العلم من الحنفية فرأوا أن المقتول ظلماً بأي سبب ولو من لصوص، أو قطاع طرق، أو بغاة شهيد لايغسل (12) وهو أصح الروايتين عن الإمام أحمد رحمه الله.
الأدلة على عدم غسل هؤلاء الشهداء ما يلي :
1-عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصل على قتلى أحد، ولم يغسلهم"(13).
2- عن أنس بن مالك رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصل على قتلى أحد، ولم يغسلهم"(14).
3- عن ابن أبي الصغير: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أشرف على قتلى أحد فقال: شهدت على هؤلاء فزملوهم بدمائهم، وكلومهم"(15).
- آثار الصحابة 16)
وردت جملة من الآثار عن بعض الصحابة، والسلف الصالح تدل على أنهم لا يرون غسل المقتول في أرض المعركة أو خارجها بسبب العدو، وهذه بعضها :
1- عن قيس بن أبي حازم عن عمار بن ياسر رضي الله عنه أنه قال: "ادفنوني في ثيابي فإني مخاصم .-أي مخاصم من قتلني".
2- عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: قال سعد بن عبيد القارئ يوم القادسية: "إنا ملاقوا العدو غداً إن شاء الله وإنا مستشهدون، فلا تغسلوا عنا دماً ولا نكفن إلا في ثوب كان علينا".
3- عن ثابت بن عمارة قال سمعت غنيم بن قيس يقول: "الشهيد يدفن في ثيابه ولا يغسل".
4- عن أبي إسحاق أن رجلاً من أصحاب عبد الله قتله العدو فدفناه في ثيابه.
القول الثاني :
يغسل الشهيد في سبيل الله في هذه الحرب وهو مقتضى قول الحسن البصري، وسعيد بن المسيب(17) وسواء كان في أرض المعركة أم خارجها. بفعل العدو أم بغير فعله.
أدلتهم :
1-عن الحسن: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بحمزة حين استشهد فغسل"(18).
2- عن عامر أن حنظلة بن الراهب طهرته الملائكة(19).
3- عن قتادة عن سعيد بن المسيب والحسن قالا: "الشهيد يغسل، ما مات ميت إلا جنب"(20).
4-عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنه قال: "غسل عمر وكفن وحنط"(21).
وجه الدلالة :
أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مات مقتولاً ومع هذا غسل وكفن وحنط فدل على جواز الغسل في حق الشهيد .
قلت : وقد وافقهما (أي الحسن وابن المسيب) بعض الحنفية في غسل الصبيان المتأثرين بجراحات الحرب، فأثر عن أبي حنيفة رضي الله عنه أنهم يغسلون(22).
ودليله:
1-أنه ليس للصبي ذنب يمحوه السيف، فالقتل في حقه والموت حتف أنفه سواء فيغسل(23).
2- أن الصبي غير مكلف ولا يخاصم بنفسه في حقوقه في الدنيا، والخصم في حقوقه في الآخرة هو خالقه سبحانه وتعالى، والله غني عن الشهود فلا حاجة إلى إبقاء الشهادة عليه(24).
وخالفه أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى فقالا: لا يغسل الصبي(25).
ودليلهم :
1-لأن حال الصبيان في الطهارة فوق حال البالغين، فإذا لم يغسل البالغ إذا استشهد؛ لأنه قد تطهر فالصبي أولى(26).
ولا يخفى عليك ما في قول هذين الصاحبين من قوة خلافاً لإمامهما. فليس هناك دليل واضح يفرق بين الصبيان وغيرهم إذا قتلوا جميعاً في أرض المعركة بيد العدو.
أما دليل الحنابلة ومن وافقهم على استثناء الغسل للمقتول إن كان جنباً أو المرأة الحائض ونحوها فهو مايلي:
1- ماروي أن حنظلة بن الراهب رضي الله عنه قتل يوم أحد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما شأن حنظلة ؟ فإني رأيت الملائكة تغسله . فقالوا : إنه جامع، ثم سمع الهيعة فخرج إلى القتال"(27).
2- عَنْ مِقْسَمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما ، قَالَ: "أُصِيبَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَحَنْظَلَةُ بْنُ الْراهِبِ، وَهُمَا جُنُبَانِ، فَقَالَ النَّبِيُّ عليه السلام : إنَّى رَأَيْت الْمَلائِكَةَ تُغَسِّلُهُم"(28).
3- أَنَّ الشَّهَادَةَ عُرِفَتْ مَانِعَةً غَيْرَ رَافِعَةٍ فَلا تَرْفَعُ الْجَنَابَةَ(29).
4- عن إسحاق بن الحارث قال: "رأيت خالد بن الحواري رجلاً من أهل الحبشة من أصحاب النبي { أتى أهله فلما حضره الوفاة قال: اغسلوني غسلتين غسلة للجنابة وغسلة للموت"(30).
وجه الدلالة:
حيث دل هذا الدليل على أن غسل الجنابة لا يسقط عن الميت.
5-لأنه غسل واجب لغير الموت، فلم يسقط بالموت كغسل الجنابة(31).
قلت:
أما غسل الملائكة لحمزة رضي الله عنه فقد رواه الطبراني في الكبير قال ثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة ثني عمي القاسم ثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعدتنا شريك عن حجاج عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس قال: "أصيب حمزة بن عبدالمطلب وحنظلة الراهب وهما جنب فقال رسول الله {: رأيت الملائكة تغسلهما"(32).
قال ابن حجر: "غريب في ذكر حمزة"(33).
وأما غسل حنظلة فلا يعني ذلك وجوب غسل الشهيد؛ إذ إن الغاسل له هم الملائكة، وبماء المزن، وبين السماء والأرض، وهذا من كرامة الله تعالى له، وهذه أمور متعلقة بالآخرة، ولو كان الأمر وجوباً لغسله النبي صلى الله عليه وسلم، أو أمر به أصحابه حتى ولو غسلته الملائكة؛ لاختلاف الغسلين فليتأمل هذا جيداً(34).
وأما كون الشهادة غير رافعة للجنابة فيرد عليه بقصة أصيرم الذي أسلم وحمل سيفه وقاتل، ولم ينقل عنه -فيما نعلم - غسل. بل لم ينقل عنه أي عمل بعد إسلامه بنطق الشهادتين سوى حمل سيفه والقتال به، والكفر أعظم من الجنابة، وكل من أسلم يؤمر بالغسل، ومع هذا لم يؤثر غسل النبي صلى الله عليه وسلم له، ولا أمره لصحابته بذلك فكيف لا يقال به هنا ويقال به في غسل جنابة الجماع؟!
وأما كونه غسلاً وجب لغير الموت فلا نعلم دليلاً في الشرع يوجب قضاء الغسل عن الميت، ولو وجد لنقل واشتهر وتواتر؛ بل إن أعظم الأمور وهي الصلاة التي تجب في أحلك الساعات، وأصعب الظروف لم نجد لها دليلاً يوجب قضاءها عمّن لم يصلها للعذر أو لغيره، ولم يوجد دليل إلا في قضاء صيام النذر فيجب الوقوف عند النصوص.
الترجيح :
من خلال استعراض أقوال الفقهاء في حكم غسل القتلى في الحرب، ومن الذي يطلق عليه لفظ الشهادة منهم، ومن لا يطلق عليه هذا اللفظ تبين لنا أن هناك فريقاً من أهل العلم يرون أن كل من تسبب العدو في قتله فهو شهيد؛ في حين ذهب البعض منهم إلى أن الشهيد من مات ظلماً ولو لم يكن في قتال العدو بشرط أن لايكون له عوض مالي كما هو مذهب أهل العلم من الحنفية؛ وجميع هؤلاء لايغسلون لانصراف حكم الشهادة عليهم
في حين ذهب الحنابلة إلى أن الجنب، والنفساء، والحائض، يغسلون لا لأجل أنهم ليسوا شهداء بل لأجل ما ألم بهم من آثار الجنابة، والحيض، والنفاس.
والذي أراه راجحاً - والله أعلم بالصواب - أن الشهيد الذي لايغسل هو شهيد المعركة الذي جاهد لإعلاء كلمة الله فقط، وسواء كانت شهادته في أرض المعركة أو بعد خروجه من أرض المعركة متأثراً بجراحات بالغة كانت هي السبب في وفاته. وأما غيره من المصابين في غير أرض المعركة فلا ينصرف عليه اسم شهيد المعركة، فيغسل، ويكفن، ويصلى عليه ولو مات حريقاً، أو مسموماً بآثار الغازات السامة، مالم تكن هذه السموم من الغازات أصابته وهو في ساحة القتال، أو في حالة تربصه بالكفار لقتالهم، ويدل على ما أرجحه مايلي :
أولاً : أن هذا الشهيد هو الذي تنصرف إليه أدلة الشهادة في سبيل الله لإعلاء كلمته.
ثانياً: لم يؤثر عن النبي صلى الله عليه وسلم - فيما نعلم - أنه ترك غسل غيره من القتلى.
ثالثا: توفي النبي صلوات الله وسلامه عليه وهو يجد أثر السم الذي سمته به اليهودية بخيبر ومع هذا غسله الصحابة وصلوا عليه بأمره عليه السلام، وقد علمنا أن السم مما يقتل لكن كان هذا في غير ساحة المعركة، ولو كان لايغسل الميت بالسم في غير المعركة لنبه عليه النبي صلى الله عليه وسلم
رابعاً: لو وسعنا دائرة الشهادة بلا دليل وخصوصاً مع تطور الأسلحة المدمرة واستخدامها في هذا الزمان لدخل فيها الكثير ممن ليس لهم أدنى شيء في الدفاع عن الدين، بل سوف يطلق لفظ الشهادة على المتهاون في أمور كثيرة كمن يتهاون في عمود الإسلام الصلاة أو ربما يتركها أحياناً. خامساً: حينما طعن الفاروق بخنجر أبي لؤلؤة المجوسي، وسقط مضرحاً بدمائه في المحراب حمله الصحابه، وغسلوه، وصلوا عليه وهذا الفعل من الصحابة إجماع فكان دليلاً على اختصاص عدم الغسل بشهيد أرض المعركة فقط.
سادساً: لعل في أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإرجاع القتلى في غزوة أحد إلى مكان المعركة، ودفنهم فيها دليل على اختصاص المعركة بأحكام أخرى ومنها أن شهيدها فقط هو الذي لاينقل فكذلك حكم عدم غسله والصلاة عليه.
سابعاً: شهيد المعركة عاش لهيبها، واصطلى بنارها، وأصر على عدم تركها؛ إعلاء لكلمة الله، فاستحق أن يتميز عن باقي الشهداء بأن لا يغسل، ولا يصلى عليه؛ لثبوت حياته عند ربه كما أنه يغفر له عند أول قطرة من دمه، ويؤمن من فتنة القبر، إلى غير ذلك من الأمور التي تختص به، ولا يشاركه غيره.
مسألة: ومما يتعلق بمسألة عدم الغسل لشهيد المعركة:
إذا رفع من أرض المعركة قبل أن يموت، ثم مات بعدذلك، فقد اختلف العلماء في حكمه على قولين:
القول الأول: أنه يغسل ويكفن ويصلى عليه، وإليه ذهب أهل العلم من الحنفية (35)، والمالكية(36)، والشافعية في غير المشهور عندهم(37).
قال في شرح السير الكبير: "فَإِذَا حُمِلَ مِنْ مَصْرَعِهِ حَيًّا فَمَاتَ عَلَى أَيْدِي الرِّجَالِ أَوْ مَرِضَ فِي خَيْمَتِهِ فَهُوَ مُرْتَثٌّ؛ لأَنَّهُ نَالَ بَعْضَ الرَّاحَةِ"(38).
الأدلة على ذلك :
1- "تَغْسِيلُهُ صلى الله عليه وسلم سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ"(39).
ووجه الدلالة:
أنه غسله، وسبب وفاته هي إصابته في غزوة الخندق(40).
2- لأن الأصْل وُجُوبُ الْغُسْلِ وَالصَّلاةِ وقدخَفَّ عليه أَثَرُ الظُّلْمِ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى شَهِيدِ الْمَعْرَكَةِ الَّذِي يَمُوتُ فِي أَرْضِهَا
القول الثاني : أنه يعامل معاملة الشهيد.
الأدلة: (41)
1-عن زيد بن صوحان لما أصيب في المعركة ولم يمت الا بعد مدة أنه قال : لا تنزعوا عني ثوباً إلا الخفين، ولا تغسلوا عني دماً، وارمسوني في الأرض رمساً؛ فإني رجل محاج أحاج يوم القيامة من قتلني .
وجه الدلالة :
فيه دليل على أنه لا ينزع عن الشهيد من ثيابه إلا ماليس من جنس الكفن، وأنه لا يغسل ليكون ما عليه من الدم شاهداً له يوم القيامة.
2 - عن مغيرة عن إبراهيم قال : "إذا رفع القتيل دفن في ثيابه، وإذا رفع وبه رمق صنع به ما يصنع بغيره".
3- عن هشام بن حسان قال: "كان محمد إذا سئل عن الشهيد يغسل؟ حدث عن حجر بن عدي إذ قتله معاوية قال : قال حجر: لا تطلقوا عني حديداً وتغسلوا عني دماً، ادفنوني في وثاقي ودمي، ألقى معاوية عند الجادة غداً".
الترجيح:
من خلال استعراض الأقوال والأدلة السابقة اتضح لنا ما ذهب إليه القائلون بالغسل من الاستدلال بقصة سعد بن معاذ في حين استدل الآخرون بآثار عن الصحابة وليس هناك دليل فصل في المسألة فسعد بن معاذ قد أندمل جرحه فترة حتى حكم في بني قريظة ولم يبق أثر الجراحة فيه باستمرار حتى مات من إصابته يوم الخندق فغسل النبي { له لا يعني أن المتأثر بالجراح من أرض المعركة ليس بشهيد إذا لم يمت في ساحتها بل تغسيله - والله أعلم بالصواب - كان لانتقاء الجراح عنه مدة معينة.
فالراجح والله أعلم: أن المتأثر بالجراح من أثر القتال إذا حمل إلى معسكره أو حتى منزله، وبقيت عليه أثر الجراحة وأوهنته حتى كانت السبب في وفاته أنه يعتبر شهيداً لا يغسل ولا يصلى عليه كشهيد أرض المعركة سواء وذلك لما يلي:
أولاً: لاستوائه مع من مات في أرض المعركة في مقاتلة العدو والصبر على القتال.
ثانياً: أن بقاءه يوماً أو يومين تحت آلام جراحه ثم يلفظ أنفاسه يستحق
به لفظ الشهادة من باب أولى من شهيد أرض المعركة ويكون ما أصابه من ألم رفعة في درجاته.
ثالثاً: على اعتبار أن الشهيد المرتث يغسل قياساً على سعد بن معاذ يجاب عليه بما يلي:
1- أن سعد بن معاذ أصيب في أكحله قبل ابتداء المعركة، قال ابن حجر: "عن موسى بن عقبة أن مدة الحصار في غزوة الخندق كانت عشرين يوماً ولم يكن بينهم قتال: إلا مراماة بالنبل والحجارة، وأصيب منها سعد بن معاذ بسهم فكان سبب موته"(42).
2- وعلى التسليم باستدلالهم بقصة سعد فإنها تكون حادثة عين خاصة به ولايقاس عليه غيره من الشهداء والله أعلم.
مسألة:
إذا تبين لك مدى اختلاف العلماء في غسل الشهيد في أرض المعركة، أوخارجها بسبب قتال الكفار فإنهم اختلفوا في الصلاة عليه على قولين:
القول الأول:
ذهب أهل العلم من المالكية، والشافعية، والحنابلة في أصح الروايتين إلى أنه لايصلى على الشهيد بل قال بعض المالكية بالتحريم(43).
الأدلة :
1- لِمَا وَرَدَ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ فِي قَتْلَى أُحُدٍ بِدَفْنِهِمْ، وَلَمْ يُغَسَّلُوا وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِمْ". وَجَاءَ مِنْ وُجُوهٍ مُتَوَاتِرَةٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ وَقَالَ فِي قَتْلَى أُحُدٍ: "زَمِّلُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ"(44).
وأجيب عن هذا الدليل بجواز أن يكون تركه ذلك؛ لأن سنتهم أن لا يصلى عليهم، كما كان من سنتهم أن لا يغسلوا. ويجوز أنه عليه الصلاة والسلام لم يصل عليهم، وصلى عليهم غيره؛ لما كان به حينئذ من ألم الجراح، وكسر الرباعية، وما أصابه يومئذ من المشركين.
2- َلَعَلَّ تَرْكَ الْغُسْلِ وَالصَّلَاةِ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ جَمَاعَةُ الْمُشْرِكِينَ إرَادَةُ أَنْ يَلْقَوْا اللَّهَ جَلَّ وَعَزَّ بِكُلُومِهِمْ لِمَا جَاءَ فِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ رِيحَ الْكَلِمِ رِيحُ الْمِسْكِ وَاللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ، وَاسْتَغْنَوْا بِكَرَامَةِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ عَنْ الصَّلاةِ لَهُم(45).
3- أن الصلاة على الميت استغفار له، وترحم عليه. والشهيد يستغني عن ذلك، فإن السيف محاء للذنوب(46).
واجيب47) بعدم التسليم، فالصلاة على الميت من حق المسلم على المسلم كرامة له، والشهيد أولى بهذه الكرامة . ولا إشكال أن درجة الشهيد دون درجة من غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وقد صلى عليه أصحابه.
والناس يقولون: وارحم محمداً وآل محمد في الصلاة، فعلمنا أنه لا يبلغ الشهيد درجة يستغني بها عن استغفار المؤمنين، والدعاء بالرحمة له.
4- أن في ذلك حِكْمَةُ بإبْقَاء أَثَرِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ، وَالتَّعْظِيمُ لَهُمْ بِاسْتِغْنَائِهِمْ عَنْ دُعَاءِ الْقَوْمِ . وَوَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : "لَيْسَ شَيْءٌ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ قَطْرَتَيْنِ وَأَثَرَيْنِ قَطْرَةٍ مِنْ دُمُوعٍ فِي خَشْيَةِ اللَّهِ، وَقَطْرَةِ دَمٍ تُهْرَاقُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَمَّا الْأَثَرَانِ فَأَثَرٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَثَرٌ فِي فَرِيضَةٍ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ"(48).
القول الثاني :
ذهب أهل العلم من الحنفية،(49) ورواية عند الحنابلة، والخلال، وأبو الخطاب منهم،(50) والإمام الثوري(51) إلى وجوب الصلاة على من مات في أرض الحرب في حال قتل الكفار له.
الدليل:
1- رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام: "صَلَّى عَلَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ، وَكَانَ يُؤْتَى بِتِسْعَةٍ تِسْعَةٍ، وَحَمْزَةُ عَاشِرُهُمْ، فَيُصَلِّي عَلَيْهِمْ . وَقَالُوا : إنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَلَّى عَلَى غَيْرِهِمْ"(52).
2- عن حصين بن عبد الرحمن، قال : سمعت أبا مالك الغفاري، رضي الله عنه قال : "كان قتلى أحد يؤتى بتسعة وعاشرهم حمزة، فيصلي عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يحملون، ثم يؤتى بتسعة، فيصلي عليهم وحمزة مكانه، حتى صلى عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم"(53).
3- عن أنس بن مالك رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر يوم أحد بحمزة، وقد جدع، ومثل به، فقال: لولا أن تجزع صفية لتركته حتى يحشره الله من بطون الطير والسباع . فكفنه في نمرة، إذا خمر رأسه بدت رجلاه، وإذا خمر رجليه بدا رأسه، فخمر رأسه، ولم يصل على أحد من الشهداء غيره وقال: "أنا شهيد عليكم يوم القيامة"(54).
وجه الدلالة :
في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم، لم يصل يومئذ على أحد من الشهداء غير حمزة؛ فإنه صلى عليه، وهو أفضل شهداء (أحد). فلو كان من سنة الشهداء أن لا يصلى عليهم، لما صلى على حمزة، كما لم يغسله؛ إذ كان من سنة الشهداء أن لا يغسلوا. وصار ما في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم، صلى على حمزة، ولم يصل على غيره؛ فهذا يحتمل أن يكون لم يصل على غيره، لشدة ما به مما ذكرنا، وصلى عليهم غيره من الناس(55).
4- وَعَنْ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ،: "أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَعْرَابِ جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَآمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَهُ ثُمَّ قَالَ : أُهَاجِرُ مَعَك . فَأَوْصَى بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْضَ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا كَانَتْ غَزْوَةٌ، غَنِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَبْيًا فَقَسَمَ وَقَسَمَ لَهُ، فَأَعْطَى أَصْحَابَهُ مَا قُسِمَ لَهُ، وَكَانَ يَرْعَى ظَهْرَهُمْ . فَلَمَّا جَاءَ دَفَعُوهُ إلَيْهِ فَقَالَ : مَا هَذَا ؟ قَالُوا : قَسْمٌ قَسَمَهُ لَك النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَأَخَذَهُ فَجَاءَ بِهِ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : مَا هَذَا ؟ قَالَ : قَسَمْته لَك، قَالَ : مَا عَلَى هَذَا اتَّبَعْتُك، وَلَكِنِّي اتَّبَعْتُك عَلَى أَنْ أُرْمَى إلَى هَاهُنَا، وَأَشَارَ إلَى حَلْقِهِ، بِسَهْمٍ فَأَمُوتَ فَأَدْخُلَ الْجَنَّةَ . فَقَالَ : إنْ تَصْدُقْ اللَّهَ يَصْدُقْك . فَلَبِثُوا قَلِيلًا ثُمَّ نَهَضُوا فِي قِتَالِ الْعَدُوِّ فَأُتِيَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُحْمَلُ قَدْ أَصَابَهُ سَهْمٌ حَيْثُ أَشَارَ . فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : أَهُوَ هُوَ ؟ قَالُوا : نَعَمْ، قَالَ : صَدَقَ اللَّهَ فَصَدَقَهُ . ثُمَّ كَفَّنَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي جُبَّته ثُمَّ قَدَّمَهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ فَكَانَ فِيمَا ظَهَرَ مِنْ صَلَاتِهِ : اللَّهُمَّ هَذَا عَبْدُك خَرَجَ مُهَاجِرًا فِي سَبِيلِك فَقُتِلَ شَهِيدًا، أَنَا شَهِيدٌ عَلَى ذَلِكَ"(56).
وجه الدلالة :
في هذا الحديث إثبات الصلاة على الشهداء الذين لا يغسلون؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث لم يغسل الرجل وصلى عليه. فثبت بهذا الحديث أن حكم الشهيد المقتول في سبيل الله في المعركة يصلى عليه ولا يغسل.
5- رُوِيَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ - رضي الله عنه - قَالَ: "إنَّهُ عليه السلام خَرَجَ يَوْمًا فَصَلَّى عَلَى أَهْلِ أُحُدٍ صَلَاتَهُ عَلَى الْمَيِّتِ ثُمَّ انْصَرَفَ إلَى الْمِنْبَرِ"(57).
6- لأن الصلاة على الميت لإظهار كرامته؛ ولهذا اختص به المسلمون "ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة على المنافقين" والشهيد أولى بما هو من أسباب الكرامة. والعبد وإن تطهر من الذنوب فلا تبلغ درجته درجة الاستغناء عن الدعاء له. ألا ترى أنهم صلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا إشكال أن درجته فوق درجة الشهداء(58).
7- أن الشهيد حي في أحكام الآخرة؛ كما قال تعالى: بل أحياء عند ربهم فأما في أحكام الدنيا فهو ميت يقسم ميراثه، وتتزوج امرأته بعد انقضاء العدة، وفريضة الصلاة عليه من أحكام الدنيا فكان فيه ميتاً يصلى عليه(59).
8- عن عقبة بن عامر قال : "إن آخر ما خطب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه صلى على شهداء أحد، ثم رقي على المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: إني لكم فرط وأنا عليكم شهيد" وَ عنه، "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قتلى أحد، بعد مقتلهم بثمان سنين"(60).
وجه الدلالة: قال الإمام الطحاوي: لا يخلو صلاته عليهم في ذلك الوقت من أحد ثلاثة معان : إما أن يكون سنتهم كانت أن لا يصلى عليهم، ثم نسخ ذلك الحكم بعد، بأن يصلى عليهم. أو أن تكون تلك الصلاة التي صلاها عليهم تطوعاً، وليس للصلاة عليهم أصل في السنة والإيجاب . أو يكون من سنتهم أن لا يصلى عليهم بحضرة الدفن، ويصلى عليهم بعد طول هذه المدة . لا يخلو فعله صلى الله عليه وسلم من هذه المعاني الثلاثة. فاعتبرنا ذلك، فوجدنا أمر الصلاة على سائر الموتى، هو أن يصلى عليهم قبل دفنهم. ثم تكلم الناس في التطوع عليهم قبل أن يدفنوا، وبعدما يدفنون، فجوز ذلك قوم وكرهه آخرون. فأمر السنة فيه أوكد من التطوع؛ لاجتماعهم على السنة، واختلافهم في التطوع . فإن كان قتلى أحد ممن تطوع بالصلاة عليهم كان في ثبوت ذلك ثبوت السنة في الصلاة عليهم قبل أوان وقت التطوع بها عليهم، وكل تطوع فله أصل في الفرض. فإن ثبت أن تلك الصلاة كانت من النبي صلى الله عليه وسلم تطوعاً تطوع به، فلا يكون ذلك إلا والصلاة عليهم سنة، كالصلاة على غيرهم. وإن كانت صلاتهم عليهم لعلة نسخ فعله الأول، وتركه الصلاة عليهم، فإن صلاته هذه عليهم، توجب أن من سنتهم الصلاة عليهم، وأن تركه الصلاة عليهم عند دفنهم منسوخ . وإن كانت صلاته عليهم، إنما كانت لأن هكذا سنتهم، أن لا يصلى عليهم إلا بعد هذه المدة، وأنهم خصوا بذلك، فقد يحتمل أن يكون كذلك حكم سائر الشهداء، أن لا يصلى عليهم إلا بعد مضي مثل هذه المدة . ويجوز أن يكون سائر الشهداء يعجل الصلاة عليهم غير شهداء أحد، فإن سنتهم كانت تأخير الصلاة عليهم أنه قد ثبت بكل هذه المعاني أن من سنتهم ثبوت الصلاة عليهم إما بعد حين وإما قبل الدفن(61).
9- عن سعيد بن عبد الله قال : سمعت مكحولاً يسأل عبادة بن أوفى النميري عن الشهداء يصلى عليهم، فقال عبادة : نعم .
وجه الدلالة :
فهذا عبادة بن أوفى يقول هذا ومغازي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كان جلها هناك نحو الشام، فلم يكن يخفى على أهله ما كانوا يصنعون بشهدائهم من الغسل، والصلاة، وغير ذلك (62).
الترجيح:
من خلال استعراض أقوال الفقهاء وأدلتهم في الصلاة على الشهيد يتضح لنا قوة ما ذهب إليه القائلون بأنه لا يصلى عليه لما استدلوا به من أدلة قوية في مقابل ضعف أدلة القول الثاني وإجابتهم عليها، وكذلك في القول بعدم الصلاة تمييز للشهيد بسبب القتال مع الكفار عن غيره فهم أحياء عند ربهم يرزقون وليسوا كسائر الأموات الذين تجب الصلاة عليهم.
مسألة: غسل الجثة المتمزقة أو الأعضاء المتطايرة من الجسد المقتول من جراء الضرب بالأسلحة المدمرة:
إذا تبين لنا ماذهب إليه القائلون بوجوب الصلاة على الميت شهيداً كان أم غير شهيد فإنهم اختلفوا ومعهم غيرهم من القائلين بعدم غسل الشهيد في غسل الجثة المتمزقة، أو الأعضاء المتطايرة من الجسد المقتول في أرض المعركة، أو في المنازل، أو في الطرقات من جراء الضرب بهذه الأسلحة الفتاكة وماشابهها من أسلحة الحرب؛ كمايلي:
القول الأول:
ذهب أهل العلم من الشافعية ؛(63) والظاهرية(64)، إلى أنه تغسل هذه الأعضاء، ويصلى عليها.
الأدلة :
1- عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ : إنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ صَلَّى عَلَى رُؤوسٍ(65).
2- أن حُرْمَة قَلِيلِ الْبَدَنِ لأنَّهُ كَانَ فِيهِ الرُّوحُ كحُرْمَةٌ كَثِيرَةٌ(66).
3- روي عن عمر رضي الله عنه أنه صلى على عظام بالشام(67).
4- لأن صلاة الجنازة شرعت لحرمة الآدمي، وكذا الغسل وكل جزء منه محترم(68).
5- روي عن أسماء، أنها غسلت ابنها، فكانت تنزعه أعضاء، كلما غسلت عضواً طيبته، وجعلته في كفنه(69).
6- لأن أبا أيوب صلى على رجل. قاله أحمد(70).
7- إجماع الصحابة رضي الله عنهم(71) قال الشافعي: ألقى طائر يداً بمكة من وقعة الجمل، فعرفت بالخاتم، وكانت يد عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد، فصلى عليها أهل مكة . وكان ذلك بمحضر من الصحابة، ولم نعرف من الصحابة مخالفاً في ذلك(72).
وأجيب :
أن حديث أهل مكة لا حجة فيه؛ لأن الراوي لم يرو من هو الذي صلى عليه حتى ننظر أهو حجة أم لا، أو نحمل الصلاة على الدعاء، وكذا حديث عمر وأبي عبيدة رضي الله عنهما ألا ترى أن العظام لا يصلى عليها بالإجماع(73).
القول الثاني:
ذهب بعض أهل العلم إلى أنه لايغسل، ولا يصلى عليه حتى يوجد أكثره وهو قول الحنفية(74). ورواية ابن القاسم من المالكية عن مالك(75).
الأدلة:
1- أن الأقل تابع للأكثر فإذا غاب الأكثر كان بمنزلة مغيب جميعه ولا يصلى على غائب(76).
2- عن ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما أنهما قالا : "لا يصلى على عضو" وهذا يدل على أنه لا يغسل؛ لأن الغسل لأجل الصلاة(77).
3- لأن الشرع ورد بغسل الميت، والميت اسم لكله وليس لبعضه القليل(78).
4- لأن النصف فأقل ليس بميت حقيقة وحكماً(79).
5- ولأن الغسل للصلاة وما لم يزد على النصف لا يصلى عليه، فلا يغسل أيضاً(80).
القول الثالث :
قال ابن حبيب عن مالك: إن كان مجتمعاً صلي عليه، وإن كان مقطعاً لم يغسل ولم يصل عليه(81).
الدليل:
1- أن تقطيعه منع غسله، وإذا منع غسله يبطل حكم الصلاة عليه كالشهيد؛ ولأن في غسله انتهاك الحرمة، ومتابعة لما تقدم من التمثيل(82).
القول الرابع:
لايغسل ولا يصلى عليه، وإليه ذهب أهل العلم من الحنفية حتى لو وجد أكثره.
الأدلة:
1-لأن المشروع الصلاة على الميت؛ وذلك عبارة عن بدنه لا عن عضو من أعضائه(83).
2- لو قلنا يصلى على عضو إذا وجد لكان يصلى على عضو آخر إذا وجد أيضاً فيؤدي إلى تكرار الصلاة على ميت واحد؛ وذلك غير مشروع عندنا(84).
الترجيح:
التوسط في المسألة أن تقول بأن الصلاة على الميت (غير شهيد المعركة) لا تسقط ولو لم يوجد إلا بعضه وليس غالبه أو نصفه وذلك لما يلي:
1- أن الصلاة على الميت في النصوص لم تفرق بين من كان متفرق الأشلاء أو لم يكن كذلك بل أتت بالعموم فتبقى على العموم مالم يرد مخصص، فما عثر عليه من جسده يصلى عليه والدعاء لكل الجسد وليس للموجود فقط.
2- أن في الصلاة على ما وجد من جسده اتباع لقول الله تعالى: فاتقوا الله ما \ستطعتم 16 {التغابن: 16}.
والاستطاعة هي في الصلاة على ما وجد وأما المعدوم فهو خارج عن حد الاستطاعة.
وبهذا تكون الصلاة على الميت المتفرق الأشلاء قد سقطت عن المصلين ولا تجب عليهم مرة أخرى لو وجدوا أجزاءً أخرى وذلك لعدم ورود دليل صحيح يوجب الصلاة على ما وجد من أجزاء الميت.
مسألة أخرى:
إن خيف تقطعه بالغسل صب عليه الماء صباً، ولم يمس، فإن خيف تقطعه بالماء لم يغسل، وييمم إن أمكن، كالحي الذي يؤذيه الماء، وإن تعذر غسل الميت لعدم الماء ييمم، وإن تعذر غسل بعضه دون بعض، غسل ما أمكن غسله، وييمم الباقي، كالحي سواء ولم أجد هذا التفصيل عند غير الحنابلة (85).
مسألة أخرى: النية عند الصلاة على أجزاء الميت:
يذكر فقهاء الشافعية أنه في صلاته على العضو الموجود ينوي الصلاة على الميت كله قال صاحب الغرر البهية في شرحه على الدرر عند قوله (ينوي الكل) أي: وجوباً إن كانت بقيته غسلت ولم يصل عليها، وندباً إن كان قد صلى عليها، فإن لم تغسل البقية وجبت الصلاة على العضو بنيته فقط، فإن نوى الجملة لم تصح، فإن شك في غسل البقية لم تجز نيتها إلا إن علق(86).
@ الهوامش:
1 - أخرجه أحمد (4-392)، والبخاري (1-42). ومسلم (6-46)، والنسائي (6-23) .
2- أخرجه أحمد (2-310)، ومسلم (6-51)، وابن ماجه (2804).
3- أخرجه الحميدي (83). وأحمد (1-187) (1628) وابن ماجه (258). والنسائي (7-115) .
4- أخرجه البخاري في صحيحه (2675)، ومسلم (4921)، وأحمد في مسنده (12110).
5 -انظر: المبسوط للسرخسي(2-54)، و بدائع الصنائع (1-903) والبحر الرائق (2-181) والفتاوى الهندية (1-186) .
6- انظر: المنتقى شرح الموطأ (2-15 )، ومواهب الجليل (2-210) وشرح الخرشي على مختصر خليل (2-109) ومنح الجليل (1-522) وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير(1-423) وبلغة السالك للدردير (1-574) .
7- انظر: الأم للشافعي (ا-306)، والمجموع شرح المهذب (5-213)، وأسنى المطالب (1-313)، والغرر البهية (2-103)، وحاشية الجمل (2-190)، ونهاية المحتاج (2-494)، وحاشية قليوبي وعميرة (1-395) .
8- انظر: المغني لابن قدامة (1-211) وكشاف القناع (2-126) وشرح منتهى الإرادات (1-367) والأنصاف في معرفة الراجح من الخلاف (2-538) .
9- المحلى بالآثار لابن حزم (3-262) .
10 - انظر: المبسوط (2-54) .
11- انظر: مطالب أولي النهى (1-863).
12- المبسوط للسرخسي(2-54).
13- أخرجه البخاري في صحيحه (1278) وأبو داود في السنن (3138)، والترمذي (1036)، وقال: حديث حسن صحيح. والنسائي في السنن (1954)، وابن ماجه (1514)، وأحمد (13777)، ومسند الشافعي (1606).
14- أخرجه الترمذي في السنن (1036).
15- المصنف لابن أبي شيبة (607/7).
16- انظر: المصنف لابن أبي شيبة (7-607 ) .
17- انظر: فتح الباري لابن حجر (212/3).
18- المصنف لابن أبي شيبة (7-607 ) .
19- أنظر: الحاشية (27).
20 - المصنف لابن أبي شيبة (607/7).
21- المرجع السابق.
22- المبسوط للسرخسي (2-54) .
23- المرجع السابق.
24 - المرجع السابق .
25- انظر: المرجع السابق.
26- المرجع السابق.
27- من حديث عبدالله بن الزبير أخرجه الحاكم (204/3-105) وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي وأخرجه البيهقي (15/4) والطبراني في الكبير كما في مجمع الزوائد (23/3) وقال الهيثمي: وإسناده حسن.
28- انظر: حاشية (32).
29 - انظر: نصب الراية .
30- رواه الطبراني في الكبير انظر: مجمع الزوائد (23/3) قال الهيثمي: وإسحاق لم أجد ترجمته وبقية رجاله ثقات.
31- انظر: المغني لابن قدامه (205/2).
32- أخرجه الطبراني في الكبير (12094) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (303) إسناده حسن. قلت في سنده شريك بن عبدالله النخعي. قال ابن حجر: صدوق يخطئ كثيراً، وقال بعضهم: سيئ الحفظ. انظر: تقريب التهذيب (2787)، والكاشف (2285)، والكامل في الضعفاء (964).
33- فتح الباري (212/3).
34- انظر: فتح الباري لابن حجر (212/3) كتاب الجنائز.
35- بدائع الصنائع (1-306)، والبحر الرائق (2-181)، والفتاوى الهندية (1-186) .
36- المنتقى شرح الموطأ (2-15).
37 - حاشية قليوبي وعميرة (1-395).
38- شرح السير الكبير: (1-230) .
39- انظر: المصنف لابن أبي شيبة (496/8).
40- المغني (206/2)، منار السبيل (163/1)، والمبدع (237/2) .
41- انظر: المصنف لابن أبي شيبة (7-607 ).
42- فتح الباري (193/7).
43 - انظر: المدونة للإمام مالك بن أنس (1-259)، ومواهب الجليل (2-248) وشرح الخرشي على مختصر خليل (2-111)، ومنح الجليل (1-519)، وبلغة السالك للدردير (1-577)، أحكام القرآن لابن العربي (2-69)، والمدخل (3-253)، والتاج والإكليل (3-65)، والفواكه الدواني (1-290)، والأم للشافعي (1-304)، والمجموع شرح المهذب ( 5-221)، وأسنى المطالب (1-315)، والغرر البهية (2-101)، وحاشية الجمل (2-193)، ونهاية المحتاج (2-498)، وحاشية قليوبي وعميرة (1-396)، فتاوى السبكي (2-35)، الأشباه والنظائر للسيوطي (446)، تحفة المحتاج (3-164)، مغني المحتاج (3-34)، حاشية البجيرمي (1-488)، والمغني لابن قدامة (2-205)، وكشاف القناع (2-100 )، والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف (2-501)، الفروع لابن مفلح (2-213)، ودقائق أولي النهى (1-355).
44 - سبق تخريجه.
45- انظر: شرح معاني الآثار (1-507) .
46-انظر: المغني لابن قدامة( 2-205)، وكشاف القناع (2-100)، والأم للشافعي (1-304 )، والمجموع شرح المهذب ( 5-221).
47- شرح السير الكبير (1 -232) .
48 - أخرجه الترمذي في السنن (1669) عن أبي أمامة، وقال: هذا حديث حسن غريب والطبراني في الكبير (7918)، وفيه الوليد بن جميل الفلسطيني صدوق يخطئ انظر: التقريب (581/1)، والكامل في الضعفاء (362/8)، وانظر: المبسوط للسرخسي (2-50)، وفتح القدير (2-142)، والعناية شرح الهداية (2-144)، وحاشية ابن عابدين (2-250)، و انظر: المغني لابن قدامة(2-205).
49- انظر: المبسوط للسرخسي ( 2-50 )، وبدائع الصنائع (1-322 )، والبحر الرائق (2-190 )، والفتاوى الهندية ( 2-25 )، وشرح معاني الآثار ( 1-507)، نصب الراية (2-370)، درر الأحكام (1-150)، وتبيين الحقائق (1-235)، وفتح القدير (2-142)، والعناية شرح الهداية (2-144)، وحاشية ابن عابدين (2-250).
50 - انظر: المغني لابن قدامة( 2-205 ).
51- المرجع السابق .
52- أخرجه الطبراني في الكبير (2936).
53- أخرجه البيهقي في السنن (6902) والدارقطني في السنن (98/2).
54- أخرجه الحاكم في المستدرك (2558) وهو حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.
55- انظر: شرح معاني الآثار (1-507)
56- أخرجه النسائي في سننه (1952) والحاكم في المستدرك (6527)، وعبدالرزاق في المصنف (9597)، والبيهقي في الكبرى (6917) والطبراني في الكبير (7108).
57- انظر: شرح معاني الآثار (1-507)، والحديث أخرجه أبو دادود (3224)، وابن حبان (3199)، والبيهقي في السنن (6910)، والدارقطني (78/2)، والطبراني في المعجم الكبير (768).
58- انظر: المبسوط للسرخسي ( 2-50 )، وبدائع الصنائع (1-322)، والبحر الرائق (2-190)، وشرح معاني الآثار (1-507).
59- انظر: المبسوط للسرخسي (2-50) وبدائع الصنائع (1-322).
60- سبق تخريجه.
61- شرح معاني الآثار ( 1-507).
62-انظر: شرح معاني الآثار ( 1-507).
63- انظر: الأم للشافعي (306/1) وما بعدها.
64- المحلى (3-362).
65 - انظر: المصنف لابن أبي شيبة (235/3) والأم للشافعي (1-306).
66- انظر: المغني لابن قدامه(2-311)- الأم للشافعي (1-306).
67 - انظر: المصنف لابن أبي شيبة (235/3) بدائع الصنائع (1-309).
68- بدائع الصنائع (1-309).
69- المغني لابن قدامه(2-311).
70 - انظر: المصنف لابن أبي شيبة (235/3).
71 - المغني لابن قدامه (2-311).
72- المغني لابن قدامه (2-311).
73- بدائع الصنائع (1-309).
74- بدائع الصنائع1-309).
75 - (المنتقى 2-15).
76- ( المنتقى 2-15).
77- بدائع الصنائع (1-309).
78- بدائع الصنائع (1-309).
79- بدائع الصنائع (1-309).
80- بدائع الصنائع (1-309).
81 - المنتقى (2-15).
82 - المنتقى (2-15).
83- انظر: المبسوط للسرخسي ( 2-50 ) .
84 - انظر: المبسوط للسرخسي ( 2-50 ) .
85- المغني لابن قدامه(2-311)، والكافي (254/1).
86 - الغرر البهية (2-103).