الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على معلم الناس الخير والهادي إلى سواء
السبيل. أما بعد:
فقد سئلت في إحدى القنوات الفضائية عن حكم تخصيص يوم لما يسمى باليوم الوطني
للتذكير بنعمة توحيد هذه البلاد المباركة، ووجوب المحافظة على أمنها
ومكتسباتها، فأجبت بأن المشهور عن كثير من مشايخنا هو منع ذلك وأمثاله من
الأيام التي توافق عليها العالم في عصرنا الحاضر، وإن كان بعضهم متردداً بين
تحريمها وكراهتها، وبعضهم يحرم بعضها ويجيز بعضها، وذكرت أنه لا يظهر لي مانع
شرعي من تخصيص يوم للوطن كما هو الحال في كل دول العالم، أو يوم للمعلم أو للأم
أو للعمال أو للمرور أو للشجرة أو يوم لمكافحة الإيدز أو السرطان أو التدخين أو
نحوها من الأيام التي يتنادى لها العالم بدوله وهيئاته العالمية، وتقام لها
النشاطات التوعية من برامج إعلامية، وحلقات نقاش ومحاضرات وكتيبات ومطويات
ونحوها، من أجل لفت أنظار الناس لهذه القضايا المهمة، والتأكيد على حقوق
أصحابها وحفظ مصالحهم، أو للتحذير من أخطار هذه الأمراض وبيان أسبابها وسبل
مكافحتها وعلاجها، وذكرت أن هذه المسألة تحتاج إلى مزيد تأمل ودراسة، وتمنيت من
مشايخنا الفضلاء في الهيئة الدائمة للإفتاء وغيرها أن يحسموا القول في هذه
المسألة، ويبينوا وجه الصواب فيها، بحيث لا يقع الناس في تردد وحرج إما في
إقرارها والمشاركة في فعالياتها، وإما في إنكارها والامتناع عن المشاركة فيها،
لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
كما أني أنكرت بشدة ما قد يحصل في اليوم الوطني على وجه الخصوص من منكرات
ومخالفات شرعية، وتجاوز للآداب والأنظمة المرعية، وربما وصلت أحياناً إلى
التجني والاعتداء على بعض المصالح العامة أو الخاصة من قبل بعض المتهورين
والسفهاء من الشباب والنساء، وأكدت على أنه يجب الأخذ على أيديهم، ومنعهم من
ذلك، وإفهامهم أن تلك الأعمال المُشينة كما أنها محرمة شرعاً فإنها ضد المقصود
من الاحتفاء باليوم الوطني، وأنها تشويه لصورة هذا البلد المبارك، وتهديد
لمكتسباته. كما أن من شأنها أن تبغِّض المواطنين والمقيمين بذلك اليوم وتجعلهم
يتوجسون منه خيفة.
ومع ترجيحي لجواز تخصيص يوم للوطن للتذكير بأهميته، والتواصي بحفظ مصالح الوطن،
وصيانة مكتسباته، إلا أني أكره كراهة شديدة إقامة الاحتفالات والمهرجانات
العامة بمناسبة اليوم الوطني، وذلك لأمرين:
الأول: ما قد يحصل في هذه المهرجانات من منكرات
ومخالفات شرعية، وظلم وعدوان، واستهتار بالقيم وانتهاك للحرمات، ثم تجد مع
الأسف من يبررها ويهون من شأنها بحجة إتاحة المجال لهؤلاء للتعبير عن فرحتهم
وصدق ولائهم لهذا الوطن الغالي!!
ويا سبحان الله كيف تقلب الحقائق، ويبرر الظلم والباطل، وكيف يجعل الإفساد في
الأرض، والخروج على تعاليم الشريعة، وظلم العباد وتهديد مصالح البلاد، وتشويه
سمعة الوطن وأهله تعبيراً عفوياً عن حب الوطن وصدق الولاء له؟
وإذا كان هذا الظلم والعدوان، والاستهتار والطيش هو الذي يفهمه بعض الكتبة من
الاحتفاء باليوم الوطني، ويحاولون تسويغه بمبررات واهية، وحجج متداعية، فلا
بارك الله فيهم ولا فيما يدعون إليه ويبررونه!!
وقد أرسل إلي أحد الفضلاء رسالة يقول فيها: "لو نزلت لساعة في أحد الأسواق
أوالميادين العامة في اليوم الوطني لما استطعت أن تفتي بجوازه، ولو رأيت حال
فتياتنا وشبابنا في هذا الاحتفال لتقطع قلبك وتفطر، ولناديت صباحاً ومساء
بإيقاف كل مظاهره"، وأرسل آخر يقول: "لو رأيت ما يحصل في اليوم الوطني من
اختلاط ومعاكسات، واستدراج للأطفال والفتيات، وانتهاك لحرمات الله لما أفتيت
بجوازه".
ولا شك أن المظاهر المذكورة ـ إن صحت ـ محرمة في اليوم الوطني وغيره، وفي كل
زمان ومكان ومناسبة.
الثاني: الخشية من المبالغة في الاحتفالات التي
تقام بهذه المناسبة حتى تطغى على الاحتفال بالأعياد الشرعية، التي يشرع
الاجتماع لها، وإظهار الفرح والسرور بها، وتبادل التهاني والتبريكات، وإدخال
الفرحة على نفوس الكبار والصغار، والأغنياء والفقراء، والتجمل والتطيب، والتوسع
في المطاعم والمشارب المباحة.
فإذا بالغ الناس بالاحتفال باليوم الوطني وأمثاله ضعف اهتمامهم بالاحتفال
بالأعياد الشرعية، وقلت عنايتهم بها، وتشوفهم إليها، وفرحتهم بإدراكها. قال شيخ
الإسلام ابن تيمية في "اقتضاء الصراط المستقيم" 1/219: "لا يخفى ما جعل الله في
القلوب من التشوق إلى العيد والسرور به والاهتمام بأمره: إنفاقاً، واجتماعاً،
وراحة ولذة وسروراً، وكل ذلك يوجب تعظيمه لتعلق الأغراض به، فلهذا جاءت الشريعة
في العيد بإعلان ذكر الله فيه، حتى جُعل فيه من التكبير في صلاته وخطبته وغير
ذلك مما ليس في سائر الصلوات... فصار ما وسع على النفوس فيه من العادات
الطبيعية عوناً على انتفاعها بما خص به من العبادات الشرعية، فإذا أعطيت النفوس
في غير ذلك اليوم حظها أو بعض الذي يكون في عيد الله فترت عن الرغبة في عيد
الله، وزال ما كان له عندها من المحبة والتعظيم، فنقص بسبب ذلك تأثير العمل
الصالح فيه فخسرت خسراناً مبينا.
وأقل الدرجات أنك لو فرضت رجلين أحدهما قد اجتمع اهتمامه بأمر العيد على
المشروع، والآخر مهتم بهذا وبهذا فإنك بالضرورة تجد المتجرد للمشروع أعظم
اهتماماً به من المشرك بينه وبين غيره، ومن لم يدرك هذا فلغفلته أو إعراضه"
ا.هـ
كان هذا هو خلاصة رأيي في هذه المسألة، وهو ما أجملته في جوابي على ذلك السؤال،
وما كدت أنهي ذلك البرنامج حتى انهالت علي الاتصالات والرسائل مستنكرةً ما قلته
مما أدين الله تعالى به، وأعتقد صحته، ولا أبتغي به رضى سلطة ولا عامة، وما
تكلمت بهذا إلا حين سئلت، ولولا الخشية من معرة كتمان الحق ومداهنة الخلق لما
قلت ما قلت، لأني أعلم أن هذا سيحمله بعض الناس على غير وجهه، وسيُشكل على
آخرين من مشايخي وأحبتي ممن يرون تحريم هذه الأيام والمشاركة فيها، وقد صدعت
بما ترجح عندي، فإن يكن صواباً فمن الله، وإن يكن خطأ فمن نفسي ومن الشيطان،
والله ورسوله منه بريئان، ولو ظهر لي خلاف ذلك لما ترددت في الرجوع عنه على
رؤوس الأشهاد، فغايتي هو الحق، وليس لي مصلحة في إباحة هذا الأمر أو تحريمه،
وقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم: "من التمس رضا الله بسخط الناس رضي الله
عنه، وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه، وأسخط
عليه الناس" وفي رواية: "من الْتَمَسَ رضَا اللَّه بسَخَط النَّاس كَفَاهُ
اللَّهُ مُؤْنَةَ النَّاس، وَمَنْ الْتَمَسَ رضَا النَّاس بِسَخَط اللَّه
وَكَلَه اللَّه إِلَى النَّاس" رواه الترمذي والبيهقي وابن حبان والحاكم، وصححه
الألباني.
ويمكن إجمال ما وردني من الإشكالات في أربعة أمور:
الأول: أن هذه أعياد بدعية خارجة عن الأعياد التي
دلت عليها الأدلة الشرعية، وهي عيد الفطر والأضحى، ويوم الجمعة الذي هو عيد
الأسبوع، وتسميتها بالأيام لا يغير من حقيقتها شيئاً، فهي أعياد تتكرر كل عام،
والعبرة بالحقائق والمعاني لا بالألفاظ والمباني.
الثاني: أن فيها تشبهاً بالكفار، ومن تشبه بقوم فهو منهم، كما نطق بذلك الصادق
المصدوق صلى الله عليه وسلم.
الثالث: أن إباحة الاحتفال بمثل هذه الأيام
يستلزم إباحة الاحتفال بالمولد النبوي وليلة الإسراء والمعراج والهجرة وبدر
وفتح مكة وأمثالها من المناسبات الشرعية، كما يستلزم إباحة الاحتفال بعيد الحب
وأمثاله من الأعياد الكفرية الفاجرة.
الرابع: أن هذه الأيام وبخاصة اليوم الوطني
يتخللها الكثير من المنكرات والمخالفات الشرعية، فيكون تخصيص هذا اليوم
والاحتفال به حراماً، لأن ما كان وسيلة لحرام فهو حرام.
وقبل أن أجيب عن هذه الإشكالات أذكِّر كل ناظر في هذه المسألة من إخواني طلاب
العلم بأن الواجب في دراسة القضايا الشرعية هو بحثها بتجرد، دون استبطان مقررات
وأحكام سابقة يعتقدها الباحث ثم يجتهد في الاستدلال لها، وردِّ ما خالفها، ولو
كان أقوى دليلاً وأهدى سبيلاً.
أما الإشكال الأول، فيجاب عنه بأن المنهي عنه هو
التشبه بالكفار في أعيادهم ومشاركتهم فيها، كما يدل عليه حديث أنس رضي الله عنه
قال: "قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما فقال:
"ما هذان اليومان؟" قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "إن الله قد أبدلكم بهما خيراً منهما يوم الأضحى ويوم الفطر" رواه
أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم وصححه ابن تيمية والألباني.
فالنبي صلى الله عليه وسلم نهاهم عن التشبه بالكفار ومشاركتهم بالاحتفال في
ذينك العيدين الجاهليين، قال الشيخ علي القاري: "وهذا كله احتراز من التشبه
بالكفار في أفعالهم".
فإن قيل: من أين لكم أن الحديث يدل على تحريم الاحتفال بذينك اليومين الجاهليين
وأمثالهما من أعياد الكفار؟ فالجواب ـ كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في
"اقتضاء الصراط المستقيم"1/386ـ: "أن العيدين الجاهليين لم يقرهما رسول الله
صلى الله عليه وسلم ولا تركهم يلعبون فيهما على العادة، بل قال: "إن الله قد
أبدلكم بهما يومين آخرين"، والإبدال من الشيء يقتضي ترك المبدل منه؛ إذ لا يجمع
بين البدل والمبدل منه، ولهذا لا تستعمل هذه العبارة إلا فيما ترك اجتماعهما،
كقوله سبحانه: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي
وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} وقوله:
{وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ
وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ}"، ثم قال: "فقوله صلى الله عليه وسلم:
"إن الله قد أبدلكم بهما خيراً منهما" يقتضي ترك الجمع بينهما، لا سيما وقوله:
"خيراً منهما" يقتضي الاعتياض بما شرع لنا عما كان في الجاهلية، وأيضاً فقوله
لهم: "إن الله قد أبدلكم" لما سألهم عن اليومين فأجابوه: "بأنهما يومان كانوا
يلعبون فيهما في الجاهلية" دليل على أنه نهاهم عنهما اعتياضاً بيومي الإسلام؛
إذ لو لم يقصد النهي لم يكن ذكر هذا الإبدال مناسباً؛ إذ أصل شرع اليومين
الإسلاميين كانوا يعلمونه، ولم يكونوا ليتركوه لأجل يومي الجاهلية"، ثم بين
خطورة التشبه بالكفار، ومشاركتهم في أعيادهم ونحوها فقال: "فالمشابهة والمشاكلة
في الأمور الظاهرة توجب مشابهة ومشاكلة في الأمور الباطنة على وجه المسارقة
والتدريج الخفي... فمشابهتهم في أعيادهم ولو بالقليل هو سبب لنوع ما من اكتساب
أخلاقهم... وما كان مظنة لفساد خفي غير منضبط عُلِّق الحكم به وأدير التحريم
عليه، فنقول: مشابهتهم في الظاهر سبب ومظنة لمشابهتهم في عين الأخلاق والأفعال
المذمومة" ا.هـ
فإن قيل: إن الاحتفاء باليوم الوطني ونحوه من الأيام تشبُّه بالكفار، لأنهم أول
من سنها واحتفى بها، فهذا هو الاعتراض الثاني، وسيأتي جوابه بعد قليل.
فإن قيل: إن العيد هو ما يتكرر عوده على وجه معتاد في السنة أو الشهر أو اليوم،
وهذه الأيام المذكورة من اليوم الوطني، ويوم المعلم، ويوم الأم، ويوم المرور،
وغيرها يتكرر عودها سنوياً على وجه معتاد، فتكون أعياداً بدعية محرمة.
فيجاب عن هذا بأمرين:
الأول: أن هذا الضابط المذكور، لو طردناه على كل
ما يتكرر على وجه معتاد، لجعلنا الصلوات الخمس أعياداً، لأنها تتكرر يومياً على
وجه معتاد وفي أوقات محددة، ولجعلنا تردد الموظفين والعمال على وظائفهم
وأعمالهم أعياداً، لأنها تتكرر يومياً أو أسبوعياً أو شهرياً على وجه معتاد وفي
أوقات محددة، وكذا من يلتزم بوقت محدد في اليوم أو الأسبوع أو الشهر لاجتماعات
اللجان والمجالس ونحوها، أو للعب مع زملائه أو الخروج لنزهة أو اجتماع في
استراحة ونحوها... وهكذا، وهذا لا يقول به أحد.
وقد سئلت مراراً عن الاجتماعات العائلية السنوية، التي يجتمع فيها أفراد
العائلة من جميع المناطق في وقت محدد كل عام، ويصنع فيها الطعام، وقد توزع
الهدايا والجوائز، ويهيأ المكان للعب الأطفال، هل هذا يعتبر عيداً، لأنه يتكرر
كل عام على وجه معتاد؟ فكان جوابي: أنه ليس من الأعياد الشرعية في شيء، وإن كان
ينطبق عليه تعريف العيد في الاصطلاح اللغوي. وأمثال هذا كثير في حياة الأفراد
والمجتمعات. وما أظن هذا اللبس والإشكال الذي يحصل لبعض الناس إلا بسبب عدم
التفريق بين معنى العيد في اللغة، ومعناه في الشرع.
الثاني: أن العيد وإن أطلق في اللغة على ما يتكرر
عوده على وجه معتاد، وهو ينطبق على اليوم الوطني ويوم المعلم وأسبوع المرور
وأمثالها، فإن الأعياد الشرعية، وهما عيد الفطر والأضحى يشرع فيهما أمران لا
يتوفران في اليوم الوطني وأمثاله من الأيام، وهما:
1ـ أن عيد الفطر والأضحى شرع فيهما من الذكر
والتكبير وصلاة العيد، وزكاة الفطر في عيد الفطر، وذبح الأضاحي في عيد الأضحى،
ووجوب الفطر وتحريم الصيام فيهما ما لا يوجد مثله في بقية الأيام.
2ـ أن إظهار الفرح والسرور، وإشاعتهما بين الناس
في هذين العيدين عبادة يتقرب بها المسلم إلى ربه، كما أنه يشرع في هذين العيدين
من التجمل والتطيب، والاحتفال بهما، والصلة والإحسان، والتسامح والتغافر،
والتوسع في تناول الطيبات ما لا يشرع مثله في اليوم الوطني وأمثاله من الأيام،
وإن تكرر عودها على وجه معتاد، أو أقيمت خلالها النشاطات التوعوية المتنوعة
للفت الأنظار إليها، وتحقيق مصالحها، ودرء كل اعتداء واقع أو متوقع عليها، ولا
يتقرب العبد إلى ربه بالاحتفال بها، وإظهار الفرح والسرور بإدراكها، ولا
بالاغتسال ولبس الجديد من الثياب، ولا بالصدقة والإحسان، ولا بالتوسع في تناول
الطيبات كما هو الحال في الأعياد الشرعية.
ولهذا كان الأولى أن تسمى أياماً لا أعياداً، حتى لا تلتبس بالعيد الشرعي، الذي
له من الخصائص والأحكام ما لا يوجد مثله في هذه الأيام.
ومن أفضل ما رأيت في تعريف العيد شرعاً ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في
"اقتضاء الصراط المستقيم" 1/394، حيث قال: "العيد: اسم لما يعود من الاجتماع
العام على وجه معتاد، عائد إما بعود السنة، أو بعود الأسبوع، أو الشهر، أو نحو
ذلك. فالعيد: يجمع أموراً: منها يوم عائد، كيوم الفطر، ويوم الجمعة. ومنها:
اجتماع فيه. ومنها: أعمال تتبع ذلك: من العبادات، والعادات"، وقال في 1/375:
"العيد المشروع يجمع عبادة، وهو ما فيه من صلاة، أو ذكر، أو صدقة، أو نسك،
ويجمع عادة، وهو ما يفعل فيه من التوسع في الطعام واللباس، أو ما يتبع ذلك من
ترك الأعمال الواظبة، واللعب المأذون فيه في الأعياد لمن ينتفع باللعب، ونحو
ذلك، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم - لما زجر أبو بكر رضي الله عنه الجويريتين
عن الغناء في بيته -: "دعهما يا أبا بكر، فإن لكل قوم عيداً، وإن هذا عيدنا"،
وكان الحبشة يلعبون بالحراب يوم العيد، والنبي صلى الله عليه وسلم ينظر إليهم.
فالأعياد المشروعة يشرع فيها وجوبا، أو استحبابا: من العبادات ما لا يشرع في
غيرها، ويباح فيها، أو يستحب، أو يجب من العادات التي للنفوس فيها حظ ما لا
يكون في غيرها كذلك. ولهذا وجب فطر العيدين، وقرن بالصلاة في أحدهما الصدقة،
وقرن بها في الآخر الذبح. وكلاهما من أسباب الطعام" ا.هـ
فالعيد الشرعي يجمع عبادة وعادة ـ كما قال الشيخ ـ وهذا ما لا يوجد في اليوم
الوطني ولا في يوم المعلم أو يوم المرور وأمثالها، كما أن العيد الشرعي يستحب
فيه إظهار الفرح والسرور، وإشاعتهما بين الناس، والتقرب بهذا إلى الله، وهذا لا
يتوفر في غيرهما من الأيام، وإن وجد فيها شيء من الفرح والسرور، والحديثان
اللذان أوردهما الشيخ صريحان في الدلالة على ما ذكرت من استحباب إظهار الفرح
والسرور في هذين اليومين، وإشعار الناس أن هذا عيدنا أهل الإسلام، وهما متفق
على صحتهما.
ولا يفوتني في هذا المقام أن أؤكد على أنه لا يجوز في اليوم الوطني ولا غيره من
هذه الأيام: الأناشيد المصحوبة بالمعازف وآلات اللهو، ومنها الدفوف. ولو كانت
هذه الأناشيد وطنية لا منكر فيها ولا فحشاء، فتنشد وتردد دون آلات عزف ومزامير.
أما الإشكال الثاني: وهو أن اتخاذ هذا اليوم
الوطني ونحوه من الأيام تشبه بالكفار، لأنهم أول من سنها ومارسها، فيجاب عنه:
بأن هذا يحتاج إلى تحديد المراد بالتشبه المحرم بالكفار، فإن هناك أموراً كثيرة
جداً يفعلها المسلمون كما يفعلها الكافرون، وليست من التشبه المحرم في شيء،
فنحن نأكل ونشرب وننام كما يأكلون ويشربون وينامون، ونلبس ونركب ونمشي ونجلس
كما يفعلون، ونستخدم كل ما ينتجونه ويستعملونه مما نستورده منهم من المنتجات
الحضارية وأنواع المصنوعات المدنية والعسكرية، وهم الذين ابتدعوها واستعملوها،
والنبي صلى الله عليه وسلم أخذ الخاتم من الروم، والمنبر من الأحباش، والخندق
من فارس، وركب الصحابة السفن التي كان يصنعها ويركبها الكفار، وهكذا، ونحن
اليوم نركب السفن والسيارات والطائرات التي صنعها وركبها قبلنا أولئك الكفار،
وكثير من أنظمتنا الإدارية والتعليمية والسياسية والاقتصادية إنما استفدناها
منهم، والحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها، فليس كل ما يفعله الكفار أو
يدعون إليه يكون حراماً أو أن موافقتهم فيه من التشبه الممنوع، خصوصاً إذا كان
فيه مصلحة ظاهرة، وقد انتشر بين أهل الإسلام ولم يكن شعيرة من شعائر دين
الكفار، أو خاصاً بهم وعلَماً عليهم.
ومن تتبع النصوص الشرعية في النهي عن التشبه بالكفار وجد أن التشبه المنهي عنه
بهم محصور في ثلاثة أحوال:
الأول: التشبه بهم فيما هو من شعائر دينهم،
كالتشبه بهم في الاحتفال بعيد ميلاد المسيح عليه الصلاة والسلام، أو التشبه بهم
في لبس الصلبان وتعظيمها، أو مشاركتهم في صلواتهم، أو طقوس جنائزهم وعقود
أنكحتهم، ونحو ذلك من شرائع دينهم وشعائره.
الثاني: التشبه بهم فيما هو من خصائص عاداتهم
التي هي علم عليهم، وشعار لهم يميزهم عن غيرهم، كالاحتفال بنهاية رأس السنة
الميلادية، والاحتفال بما يسمى عيد الحب، أو تشبه الرجال بهم في لبس القلائد
والحلق والأساور، ولو كانت من غير الذهب والحرير، ونحو ذلك.
الثالث: التشبه بهم فيما يمارسونه من أعمال محرمة
كتبرج النساء، وفعل اللواط والزنا، وحلق اللحى، وشرب الخمور، وأكل الميتة
والخنزير، والأكل والشرب بالشمال، واتخاذ القبور مساجد، ولبس الرجال للذهب
والحرير ونحوها. فهذه كلها محرمة لنهي الشارع عنها، ولأن فيها مضاهاةً للكفار
وتشبهاً بهم.
وإذا عرفنا ضوابط التشبه المحرم علمنا أن اتخاذ هذه الأيام كاليوم العالمي للأم
أو للعمال أو للمرور أو للشجرة أو اليوم الوطني وأمثالها ليست من التشبه
بالكفار في شيء، لأنها ليست من شعائر دينهم، ولا من خصائص عاداتهم، ولا من
الأعمال المحرمة شرعاً، وإن كانت في الأصل جاءت من الكفار، لكنها أصبحت شائعة
في كل دول العالم مسلمها وكافرها، وهي تشبه ما أخذناه عن هؤلاء الكفار من ركوب
السفن والسيارات والطائرات، والتعامل مع البنوك والبورصات، والأكل بالملاعق
وعلى الطاولات، والأخذ بنظام التعليم، ونظام المرور، ونظام السجون، ونظام
الجوازات والأحوال المدنية، وغيرها من أنظمتهم الإدارية والتعليمية والاجتماعية
والصحية والاقتصادية والعسكرية والسياسية.
قال شيخنا العلامة محمد بن عثيمين في "الشرح الممتع" 3/237: "التشبه بالكفار
حرام، ولكن لا بد أن نعرف ما هو التشبه، وهل يشترط قصد التشبه؟
فالجواب: أن التشبه أن يأتي الإنسان بما هو من خصائصهم، بحيث لا يشاركهم فيه
أحد كلباس لا يلبسه إلا الكفار، فإن كان اللباس شائعاً بين الكفار والمسلمين
فليس تشبهاً، لكن إذا كان لباساً خاصاً بالكفار، سواء كان يرمز إلى شيء ديني
كلباس الرهبان، أو إلى شيء عادي لكن من رآه قال: هذا كافر، بناء على لباسه فهذا
حرام".
إلى أن قال: "فإن قال قائل: على قولكم حرموا قيادة الطائرات التي تحمل
الصواريخ، وما أشبه ذلك؛ لأن الذين يقودونها كفار؟
فالجواب: أن هذه ليست من أزيائهم التي يتحلون بها، ويتخذونها شعاراً لهم، فهذه
آلة يقودها الكفار، ويقودها المسلمون، والصحابة لما فتحوا البلاد ركبوا السفن
التي يصنعها الكفار، والتي هم بها أدرى، ولم يقولوا: إذا ركبنا السفينة صرنا
متشبهين" ا.هـ
وأما الإشكال الثالث: وهو أن إباحة الاحتفال بمثل
هذه الأيام يستلزم إباحة الاحتفال بالمولد النبوي وليلة الإسراء والمعراج
والهجرة وبدر وفتح مكة وأمثالها من المناسبات الشرعية، كما يستلزم إباحة
الاحتفال بعيد الحب وأمثاله من الأعياد الكفرية الفاجرة.
فالجواب عنه: بأن هذا قياس مع الفارق الكبير، وقياس لما الأصلُ فيه الإباحة على
ما الأصلُ فيه التحريم!! وذلك أن من يحتفلون بالمولد النبوي أو الهجرة أو فتح
مكة أو نحوها من المناسبات الشرعية إنما يفعلون هذا تقرباً إلى الله تعالى بهذا
الاحتفال، والقاعدة الشرعية المتفق عليها عند جميع العلماء أن العبادة مبناها
على الحظر والمنع إلا ما دل عليه الشرع، فالعبادات توقيفية، لا يجوز لأحد أن
يتقرب إلى الله تعالى بشيء لم يأذن به الله، فأي عبادة يتقرب به العبد إلى الله
لم يدل عليها شرع الله فإنها مردودة على صاحبها، غير مقبولة منه، ولا يبرر
بدعته حسن نيته وسلامة مقصده، فكم من مريد للخير لم يبلغه، وقد قال الله تعالى
منكراً على أهل البدع: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ
مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ}، وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" فهذه بدعة
مردودة، وقد تكرر المولد النبوي على النبي صلى الله عليه وسلم بعد بعثته ثلاثة
وعشرين عاماً لم يحتفل به مرة واحدة طيلة حياته، ولو كان هذا من دين الله، ومما
يقرب إلى الله لفعله ولبلغه للناس، لأن الله تعالى أوجب عليه البلاغ والتبيين،
وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، وفي صحيح مسلم عنه عليه الصلاة والسلام
أنه قال: "إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه
لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم"، كما أن صحابته وتابعيهم بإحسان لم يحتفلوا بهذا
اليوم، وهم أحرص الناس على الخير، وأكمل المؤمنين محبة لرسول الله صلى الله
عليه وسلم، وتعظيماً لسنته، فلو كان خيراً لسبقونا إليه. ولم يعرف الاحتفال
بهذا اليوم إلا في القرن الرابع الهجري على يد الفاطميين الرافضة.
وثمة علة أخرى في الاحتفال بهذا اليوم، وهو أن الاحتفال به تشبه ظاهر بالنصارى
الذين جعلوا يوم ميلاد المسيح عليه الصلاة والسلام أكبر أعيادهم وأهمها، وصدق
نبينا صلى الله عليه وسلم حين قال: "لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ
قَبْلَكُمْ شِبْرًا شِبْرًا وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ
ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ" قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودُ
وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: فَمَن" رواه البخاري ومسلم. وهؤلاء الفاطميون الذين سنوا
هذه البدعة المنكرة وأدخلوها على أهل الإسلام قد تشبهوا باليهود والنصارى فيما
هو أفحش من هذا وأشنع، وهو اتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد، وعبادتها من
دون الله، فالله المستعان.
وقد كتبت منذ بضعة أشهر مقالاً مطولاً عن خطورة البدع والتحذير منها، وحكم
الاحتفال بالمناسبات الشرعية التي لم يأذن الله تعالى بالاحتفال بها، وهو منشور
في مواقع "رسالة الإسلام" لمن أحب الاطلاع عليه.
وأما عيد الحب فلا شك في تحريمه لسببين:
الأول: أن له أصلاً دينيا عند أولئك الكفار الذين
يحتفلون به، وما كان من شعائر دين الكفار فهو من التشبه الحرام كما بينته
آنفاً.
الثاني: أن من يحتفلون بهذا يجعلونه مناسبة
لتكريس الفساد الأخلاقي، والانفلات الجنسي، فيحرضون النساء على بذل أنفسهن في
هذا اليوم لكل من يطلبهن، وأن يتبادل الناس الحب والمتعة المحرمة، ويسعد بعضهم
بعضاً عن طريق الزنا والعلاقات الجنسية الفاجرة.
وهذا أمر لا يرضاه من عنده أدنى قدر من الدين والمروءة، ولو علم الجهلة من أهل
الإسلام الذي يحتفلون بهذا اليوم ويقلدون الكفار أن ذاك أصله، وهذا مقصوده
لأنفوا منه ولم يحفلوا به.
وأما الإشكال الرابع: وهو ما قد يعمل في اليوم
الوطني من المنكرات والمخالفات الشرعية، فيكون تخصيص هذا اليوم والاحتفال به
حراماً، لأن ما كان وسيلة لحرام فهو حرام.
فقد بينت آنفاً حكم الاحتفال باليوم الوطني، وحكم ممارسة هذه المخالفات الشرعية
أو السكوت عليها والتغاضي عنها، وأن المنكر يحرم فعله، ويجب إنكاره ومنعه، سواء
وقع في هذا اليوم أو في غيره، ولكن هذا لا يعني أن أصل اتخاذ هذا اليوم حرام،
لأن هذه المنكرات قد يفعلها السفهاء وضعاف الإيمان في عيد الفطر وعيد الأضحى،
وقد يفعلون فيهما أكثر مما يفعلونه في اليوم الوطني، فهل يجرؤ أحد على القول
بتحريم الاحتفال بهذين العيدين، لما قد يقع فيهما من المنكرات؟ فلا يصح أن نحكم
على ما هو مشروع أو مباح في الأصل بأنه حرام، لأنه قد يفعل فيه شيء من
المنكرات!! بل تمنع المنكرات، ويبقى المشروع أو المباح على أصله.
وقد سئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء برئاسة سماحة شيخنا العلامة:
عبد العزيز بن باز رحمه الله عن حكم الشرع في الاحتفال بمولد الرسول صلى الله
عليه وسلم، وعيد الأم، وأسبوع الشجرة، وأسبوع المرور، واليوم الوطني للمملكة،
وأسبوع المساجد، فجاء جوابهم متضمناً لكثير مما ذكرته آنفاً، وهذا هو نص
الفتوى:
"أولاً: العيد اسم لما يعود من الاجتماع على وجه
معتاد، إما بعود السنة أو الشهر أو الأسبوع أو نحو ذلك، فالعيد يجمع أمورًا
منها: يوم عائد كيوم عيد الفطر ويوم الجمعة، ومنها: الاجتماع في ذلك اليوم،
ومنها: الأعمال التي يقام بها في ذلك اليوم من عبادات وعادات.
ثانيًا: ما كان من ذلك مقصودًا به التنسك والتقرب
أو التعظيم كسبًا للأجر، أو كان فيه تشبه بأهل الجاهلية أو نحوهم من طوائف
الكفار فهو بدعة محدثة ممنوعة داخلة في عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من
أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" رواه البخاري ومسلم مثال ذلك: الاحتفال
بعيد المولد، وعيد الأم، والعيد الوطني؛ لما في الأول من إحداث عبادة لم يأذن
بها الله، ولما في ذلك التشبه بالنصارى ونحوهم من الكفرة، ولما في الثاني
والثالث من التشبه بالكفار.
وما كان المقصود منه تنظيم الأعمال مثلًا لمصلحة الأمة وضبط أمورها؛ كأسبوع
المرور، وتنظيم مواعيد الدراسة، والاجتماع بالموظفين للعمل ونحو ذلك مما لا
يفضي به إلى التقرب والعبادة والتعظيم بالأصالة، فهو من البدع العادية التي لا
يشملها قوله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» فلا
حرج فيه، بل يكون مشروعًا"ا.هـ
ولعلك تلاحظ أخي القارئ الكريم أن اللجنة أجازت المشاركة في أسبوع المرور
العالمي ونحوه مما لا يفضي به إلى التقرب والعبادة والتعظيم بالأصالة... مع أن
أسبوع المرور ونحوه من الأسابيع والأيام إنما جاءتنا من الكفار، وهم لا يزالون
يدعون إليها ويقيمونها مع بقية دول العالم، بل إن اللجنة نصت على أن هذا لا حرج
فيه، بل يكون مشروعاً.
ولكنها منعت من عيد الأم، والعيد الوطني، لما فيهما من التشبه بالكفار!
والحقيقة أنه لم يظهر لي فرق بين أسبوع المرور ونحوه، وبين اليوم الوطني ويوم
الأم والمعلم والعمال والشجرة وأمثالها. وقد أجبت سابقاً عن القول بأن اتخاذ
هذه الأيام التي اتفق عليها العالم كله: مسلمه وكافره يعد من التشبه الحرام.
وهذا هو الذي دعاني إلى أن ألتمس من مشايخنا الأجلاء بيان الفرق بين هذه
الأيام، ووجه الصواب في هذه المسألة، التي لم تزل تثير الكثير من الجدل
والبلبلة كلما حل بنا يوم من هذه الأيام، والتي تستنفر لها المدارس والجامعات
ووسائل الإعلام. والله من وراء القصد، وهو الهادي إلى سواء السبيل، والحمد لله
رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.